بسم الله الرحمن الرحيم
النقطة الثالثة : القلب والورقة البيضاء .
يمكن تمثيل القلب بالورقة البيضاء ، فالقلب الذي لم يقع صاحبه في بأي سيئة ، هو مثل ورقة بيضاء ناصعة البياض ، ولو فرضنا أن إنساناً يقع في المعاصي بمعدل معصية كل يوم ، يقترف معصية واحدة كل يوم من المعاصي التي يستصغرها الناس وهي عند الله عظيمة ، سيئة واحدة في اليوم الواحد .
1) يوم الأحد وقع في السخرية ، سخر من إنسان ، لأنه من شعب آخر أو من قبيلة أخرى ، وهذا يسمى سيئة ، فنكتت في قلبه نقطة سوداء واحدة ، (إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ) .
2) وفي يوم الاثنين : وقع في اللمز ، يعني أطلق كلمة بذيئة وشتم بها إنساناً ، هذا يعتبر سيئة، (إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ) .
3) في يوم الثلاثاء : وقع في سوء الظن ، أساء الظن ، أتصل بشخص عبر هاتفه النقال ولم يجد جواباً أو رداً ، فأساء الظن به ، وهذا يعتبر سيئة ، (إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ) .
4) في يوم الاربعاء : وقع في الغيبة ، سمع غيبة ، ولأنه سمع غيبة فهذا يسمى معصية ، (إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ) .
5) في يوم الخميس : وقع في إخلاف الوعد ، وعد أخاه بأنه سيلتقي به أو سيزوره في وقت كذا، وحان الموعد وهو على علم ويتذكر ذلك جيداً ، لم يتصل ولم يعتذر ، وهذا يعتبر سيئة ، (إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ) .
6) في يوم الجمعة : ذهب إلى السوق ، وفي الطريق كانت هناك امرأة متبرجة ، فنظر إليها ، النظرة الأولى خطأ ، فصرف بصره ثم أعاد بصره متعمداً تجاه تلك المرأة ، وهذا يعتبر سيئة ، (إذَا أذنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَة سَوْدَاءُ) .
هذا فقط معدل معصية واحدة في اليوم ، فقط وفقط ، يعني نحسن الظن بهذا الشخص كثيراً ، نقول أنه يرتكب سيئة واحدة فقط في اليوم ، واحدة وواحدة فقط في اليوم الواحد ، أنظروا ماذا يحدث في قلبه خلال أسبوع واحد فقط .
وخلال شهر ، كم نقطة سوداء ستسجل في قلبه ، كم نكتة سوداء ستنكت في قلبه .
سورة المطففين : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14).
نتكلم عن الإنسان المصر على عدم التوبة ، وخلال شهرين ، كم ستسجل في قلبه من نقطة سوداء؟ ، نحن لا نتكلم عن السنة أو السنتين ، وثلاث سنوات وأربع وخمس ، تكلمنا عن شهرين بمعدل سيئة واحدة في اليوم الواحد ، وهو مصر على عدم التوبة ، أنظروا ماذا يحدث في القلب ، يعني المعاصي لها أثر سيء جداً على القلب .
الله يذكر العاصي بذنوبه وذلك من خلال العذاب الأدنى ، لعله يرجع ويتوب :
سورة السجدة : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
الله تعالى لا يتركه هكذا ناسياً ، بل يذكره ، يذكره بالعذاب الأدنى المحيط ، الله يجعل العذاب الأدنى يحيط به ، مثلاً في البحر ، وحينها سيرى بين عينيه بعض هذه النقاط السوداء ، وهي رسالة من الخالق لهذا الإنسان ، أن لديك معاصي ، عليك أن تتوب منها ، عليك أن تقلع عنها ، ويعد ربه بأنه سيتوب .
سورة يونس : وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ … (23)
هذا الإنسان أخلف وعده ، وبإخلافه هذا أعرض ، وبإعراضه يكون كفورا .
سورة الإسراء : وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
سورة التوبة : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77).
في لحظات العذاب الأدنى المحيط أو في الحالات التي يكون فيها الإنسان مفتقراً إلى ربه ، محتاجاً إلى ربه أن يعينه ويساعده ، يرى الإنسان عدة نقاط سوداء بين عينيه ، وبالتالي عندما وعد ربه بأن يكون شاكراً وأن يكون من الصالحين ، فإن هذا الوعد يتعلق بعدة نقاط سوداء ، وحينما يخلف وعده يكون هذا الإخلاف متعلق بعدة نقاط سوداء ، وبعد الإخلاف ، حينها لا تسجل نقطة سوداء واحدة ، بل تسجل دائرة سوداء ، دائرة سوداء بحجم عدد تلك النقاط السوداء ، وهي دائرة النفاق .
هناك فرق بين نقطة المعصية و بين دائرة النفاق ، دائرة النفاق تأخذ مساحة أكبر، (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
الإنسان كلما تقدمت به الأيام والشهور والسنين ، وهو لا يزال مصراً على ارتكاب السيئات ، نجد أن مساحة السواد في قلبه تزيد ، ونجد أن مساحة البياض في قلبه تنقص .
القاعدة : ( ما دامت في قلبه مساحة من البياض ، ولو كان حجمها مثقال ذرة ، فباب التوبة يظل مفتوحاً ).
لكن لو أن قلبه أمتلئ بالسواد بنسبة 100% ، فقد يكون ملك الموت في الطريق ، وهنا نحن نتكلم عن القلب الغيبي ، الذي لا يعلم ما يحدث فيه إلا الله تعالى ، هذا أمر غيبي ، نحن نذكر قواعد لنعتبر ونحذر ونحتاط ونستعد ، (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
النقطة الرابعة : عوامل (الاستصغار والنسيان والزمن ) هي التي تجعل القلب أسوداً بنسبة 100 %.
سورة الكهف : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ … (57)
الإعراض عن ذكر الآيات يورث النسيان ، يجعل الإنسان مصاب بالنسيان ، يعني بفقدان الذاكرة ، لكن ليس في جميع المجالات ، ليس في مجال جمع الأموال ، الأموال وما يتعلق بها يتذكر هذا جيداً جداً .
سورة الهمزة : الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
وإنما في مجال نسيان الذنوب ، الذنوب المتعلقة به ، ينسى الذنوب التي يفعلها هو نفسه ، أما الذنوب المتعلقة بغيره ، فهو يتذكرها جيداً ، فتلك مادة الغيبة والنميمة في المجالس ، إعراضه عن ذكر الآيات يجعله ينسى ذنوبه فقط ، دون ذنوب الآخرين ، فهذه لا ينساها أبداً بل يتذكرها جيداً، فهو يستعملها كمادة يصنع منها الغيبة والنميمة في المجالس ، هكذا هو يوظف ويستثمر هذه العيوب لصناعة الغيبة والنميمة ، فهو يشتغل في عيوب الأخرين .
سورة الكهف : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ … (57)
لكن كيف حدث ذلك ؟
أن إعراضه عن ذكر الآيات ، يجعل قرناء السوء يقبلون عليه .
سورة فصلت : وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ … (25)
القرناء يزينون له الاستصغار ، استصغار المعاصي ، وعندما يراها هينة وصغيرة فإنه سيقبل عليها ويرتكبها ويقتحمها وينتهكها ويتمادى عليها ويصر عليها ، وما دام يعيش حالة الاستصغار وهو لا يتوقف عن المعاصي ، يصبح أسير المعاصي ، يعني يخطط ، يعيش وهو يخطط ، يرتكب الأولى اليوم ويخطط للثانية غداً وهكذا ، هذا التخطيط وهذه البرمجة المستمرة للمعاصي ، هل تجعله يعود بذاكرته إلى الوراء ؟ ، ليراجع نفسه وينقد ذاته ؟ ، لا ، وهذا هو معنى النسيان .
سورة الكهف : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ … (57)
وأن إعراضه عن ذكر الآيات يجعل قرناء السوء يقبلون عليه :
سورة الزخرف : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
هؤلاء القرناء يزينون له استصغار المعاصي :
سورة فصلت : وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ … (25)
وما دام القرناء معه ، لا يتوقفون عن تزيين المعاصي ، فإنه لن يتوقف عن ارتكاب هذه المعاصي لأنها في نظره صارت صغيرة وهينة ، فيقع فيها الواحدة تلو الأخرى ، بشكل متواصل ، معصية في هذه الساعة ، وفي الساعة المقبلة معصية أخرى ، وفي الساعة الثالثة معصية أخرى ، وفي الساعة الرابعة والخامسة والسادسة معاصي أخرى ، هذا اليوم معاصي معينة ، وفي الغد معاصي أخرى ، هذه البرمجة المتواصلة للمعصية ، لا تجعله يعود بذاكرته للوراء ، ليتذكر معاصيه ، لا تسمح له بذلك ، ولذلك ما هو الحل لتقوية ذاكرتنا في ما يتعلق بذنوبنا ؟.
يتبع….