بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
هذه الآية نزلت في غزوة “حمراء الأسد” وهي الغزوة التي كانت بعد معركة أحد بيوم واحد، حيث أمرالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسلمين بالخروج لمطاردة جيش قريش، بالرغم من أن الجيش كان مُثقلًا بالجراح، وكان الهدف هو منع قريش من العودة لغزو المدينة.
يقول تعالى (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ)
الوَهَنْ هو الضعف، فقوله تعالى (وَلَا تَهِنُوا) يعني وَلَا تَضْعُفُوا.
(فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) أي فِي طلب الْقَوْمِ، وهم المشركون.
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) يعنى إِنْ تَكُونُوا تتَأْلَمُونَ بسبب ما أصابكم من القتل والجراح، فان أعدائكم من المشركين يتألمون –هم أيضًا- كَمَا تتألمون.
(وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) يعنى أنتم متساوون معهم في الألم، ولكن تزيدون عليهم في أنكم تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ، وهو الثواب العظيم على الجهاد أو الشهادة ودخول الجنة ان قتلتم.
اذن المعادلة في صالحكم، كما قال تعالى في سورة التوبة (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ)
بعد معركة أحد أشرف أبو سفيان على المسلمين ونادي “يوم بيومِ بدر، والحربُ سِجال” أي مرة ومرة، فنادي عمر بن الخطاب “لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار”
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
يقول تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)
(إِنَّا) بنون العظمة (أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) وهو القرآن العظيم.
وكلمة (أَنْزَلْنَا) اشارة الى أن الجهة التي جاءت بالكتاب هي جهة أعلى.
(بِالْحَقِّ) يعنى مشتملًا على الْحَقِّ، ومضمونه الْحَقِّ.
(لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) ولم يقل تعالى “لِتَحْكُمَ بَيْنَ المؤمنين أو “بين المسلمين” وانما قال (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) يعنى الأمر بالعدل مع جميع الناس سواء مؤمنين أو كافرين، وليس المؤمنين فقط.
(بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أي بوحي الله لك.
يقول ابْنِ عَبَّاسٍ: إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ، فان اللَّهُ تَعَالَى قال لِنَبِيِّهِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ: بِمَا رَأَيْتَ.
الآن تجد من يقول أنا مفكر اسلامي، وعندي مشروع، نقول فكر كما تشاء ولكن في حدود وحي الله تعالى، وهو القرآن والسنة الصحيحة.
(وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) يعنى لا تخاصم عن الخائنين ولا تجادل عنهم، ولا تدافع عنهم،
(وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
(وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) أي وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يا محمد
(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
(وَلَا تُجَادِلْ) يعنى وَلَا تُدافع
(عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يعنى الَّذِينَ يخونون أَنْفُسَهُمْ.
وقوله تعالى (يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) لأن الذي يخون فانه يخون نفسه قبل أن يخون غيره، لأن وبال الخيانة سيعود عليه.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا) خَوَّانًا أي كثير الخيانة.
(أَثِيمًا) يقول ابن عباس: أَثِيمًا أي فاجرًا.
(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) أي يَسْتَترونَ ويستحيون مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَترونَ ولا يستحيون مِنَ اللَّهِ تعالى،
(وَهُوَ مَعَهُمْ) أي وهو تعالى يشاهدهم ويسمع كلامهم
(إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) يعنى يدبرون ويتفقون فيما بينهم على ما لا يرضاه الله تعالى مِنَ الْقَوْلِ،
وكلمة التبييت مأخوذة من البيت، لأن التدبير يكون داخل البيوت
وهذه العبارة وهي قول الله تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) ينبغي أن تكون في ذهن كل مسلم.
يقول ابن القيم: “أجمع العارفون بالله أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات”.
روي ابن ماجه في الصحيح عَنْ ثَوْبَانَ أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) .
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعنى أنتم جَادَلْتُمْ ودافعتم عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وقد يفلتون بذلك من العقاب فِي الدُّنْيَا، فمن الذي سيجادل ويدافع عنهم أمام الله تعالى يوم القيامة ؟
(أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) يعنى ومن المحامي الذي يُوَّكل اليه أمرهم يوم القيامة ؟
فالقاضي في الدنيا من البشر، أما يوم القيامة فالقاضي هو الله تعالى الذي يعلم السر وأخفي
هذا الكلام موجه لكل محامي، نقول لا يجوز بأي حال أن يدافع المحامي عن المجرم أو الظالم، وانما يجوز له فقط الدفاع عن المظلومين، واذا كانت هذه هي نيته، وهي نصرة المظلومين فهو عمل شريف وعظيم وأجره عظيم عند الله تعالى.
روي أحمد وغيره أن رَجُلَانِ أخان مِنْ الْأَنْصَار جاءا الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْتَصِمَانِ فِي ميراث، فَقَالَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَر، وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ قِطْعَة مِنْ النَّار.
فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلّ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ اِسْتَهِمَا”
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
يقول تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) أي يذنب أي ذنب سواء كبيرًا أو صغيرًا
(أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) هذا لبيان أن العبد اذا أذنب فانه يظلم نفسه
(ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)
يقول عبد الله بن مسعود أن هذه الآية من ارجي آيات القرآن العظيم.
يقول تعالى في الحديث القدسي (يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي -يعنى لا أبالي بهذه المعاصي- يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ –أي بمليء الأرض- خطايا ثمَّ لقيتَني –أي يوم القيامة- لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً)
(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا) يعنى ومن يعمل ذنباً.
(فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) يعنى فَإِنَّمَا يعود وباله عليه.
كما نقول في المثل الشعبي “اللى بيشيل قربة مخرومة بتخر على دماغة”
(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) الخَطِيئَةً:هي المعصية الصغيرة .
(أَوْ إِثْمًا) الإثم هي المعصية الكبيرة .
(ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) يعنى ثُمَّ يزيد في خطيئته وفي ذنبه بأنه يتهم بهذا الذنب شخصًا بَرِيئًا
(فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) قال تعالى احْتَمَلَ ولم يقل حمل، لأن الحمل ما تستطيع حمله، ولكن احْتَمَلَ تكون في شيء فوق طاقة الانسان، مما يدل على عظم هذا الذنب.
والبهتان هو أشد أنواع الكذب وسمي بذلك لأنه يبهت ويدهش من يرمي به.
(وَإِثْمًا مُبِينًا) أي إِثْمًا واضحًا
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) يعنى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ يا محمد وَرَحْمَتُهُ لكادت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
(لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي يُضِلُّوكَ بأن تقضي بغير الحق .
(وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) يعنى وان حكمت بغير الحق، فلن يضرك ذلك لأنك تحكم بالظاهر.
(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) وهو القرآن العظيم
(وَالْحِكْمَةَ) وهي السنة وقيل هي فهم القرآن والمعنى واحد.
(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) يقول ابن عباس هو علم الشرع.
فالعلم نعمة من الله تعالى، و احتج الغزالي رحمه الله بهذه الآية على فضل العلم، وقد كان من دعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- “اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ عِلمًا نافعًا”
(وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) وفَضْلُ اللَّهِ تعالى على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضلًا عَظِيمًا، لأنه اصطفي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جميع البشر، فهو خير خلق الله، منذ آدم وحتى قيام الساعة، ومنزلته يوم القيامة هي أعظم منزلة، ودرجته في الجنة هي أعظم درجة
سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
منقول من موقع وائل فوزي