بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) القسط هو العدل، و(قَوَّامِينَ) صيغة مبالغة من قائم.
والمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا التزموا بإقامة العدل التزمًا شديدًا.
يقول تعالى (شُهَدَاءَ لِلَّهِ)
يعنى أدوا الشهادة تطلبون بها رضا الله تعالى، دون الالتفات الى رضا أو سخط غيره.
كما نقول في التعبير الدارج “الشهادة لله” يعنى شهادة ليس فيها تحيز ولا محاباة، ولا أراقب فيها أحدًا الا الله تعالى وحده.
(وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)
يعنى أن تشهد بالحق، حتى لو كانت هذه الشهادة على نفسك، وقال البعض نفسك يعنى ابنك لأنه جزء منك.
والشهادة على النفس هي التى يطلق عليها الاقرار، ومن معاني الشهادة على النفس أن تشهد بالحق حتى لو أدي ذلك الى وقع ضرر عليك، مثل شخص شهد جريمة، ويأتيه تهديد بالقتل أو الإيذاء ان شهد على ما شاهده.
(أَوِ الْوَالِدَيْنِ) وهما الأب أو الأم (وَالْأَقْرَبِينَ) يعنى أقرب الناس اليك، حتى لو كان أخوك أو اختك أو عمك أو خالك.
(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) يعنى تشهدوا بالحق دون النظر الى حال المشهود عليه، فلا تنظر الى غناه، فتشفق عليه لغناه وشرفه أن يعاقب، أو تنظر الى فقره فترحمه لفقره وحاجته.
(فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) فالله تعالى أولى منكم بالنظر الى حال الغنى والفقير، وهو تعالى الذي أمر بإقامة العدل بين الناس، لا فرق بين غنى أو فقير.
(فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) والهوى من الهوي، وهو السقوط، فَلَا يحملنكم هوى نفوسكم على ترك العدل، لأنه أبوك أو أخوك أو جارك أو صديقك أو عدوك أو غنى أو فقير، فكل هذا من هوى النفس، فلا تتبع الهوى ، ولكن اتبع الحق.
ولذلك يضعون الصورة الرمزية للعدالة، سيدة تحميل ميزان وهي معصوبة العين.
(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
(وَإِنْ تَلْوُوا) يعنى وان تحرفوا الشهادة وتغيروها، وهي من لى اللسان.
(أَوْ تُعْرِضُوا) يعنى تُعْرِضُوا عن أداء الشهادة، وترفضوا أدائها، وتكتموها.
(فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فان الله تعالى خبير بأفعالكم وسيجازيكم عليها، وفي هذا تهديد شديد لمن يغير أو يكتم الشهادة.
وهذه الآية هي أعظم الآيات في الأمر بالعدل، لأن الآية تأمر بأن يشهد الانسان على نفسه بالحق، وهذا أمر في غاية الصعوبة، والأصعب أن يشهد على أبيه أو أمه أو أخيه
وفي كتب التفسير أن السلف الصالح كانوا يقبلون شهادة الأب لِوَلَدِهِ، والولد لأبيه، والأخ لأخيه، والزوج لزوجته، وهكذا، وذلك لقوة دينهم، فلما ضعف الدين في النفوس، ذهب العلماء الى عدم قبول شهادة هؤلاء.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
كيف يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ؟
نقول المخاطب بهذا الآية الكريمة ثلاثة أصناف:
أولًا المؤمنون، والمعنى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا داوموا على ايمانكم، واثبتوا عليه، وقوا ايمانكم، وارتقوا في ايمانكم.
وهذا مثل قوله تعالى في سورة الأحزاب (يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ) مع أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أكثر البشر تقوى ، والمعنى داوم على التقوى واثبت عليها.
فاذا نودي شخص بوصف، وطلب منه هذا الوصف بعد ذلك، فالمراد هو المداومة والثبات على هذا الوصف.
الصنف الثاني: الخطاب للمنافقين، يعنى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا بأفواههم آَمِنُوا بقلوبكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ايمانًا ظاهريًا، آمنوا ايمانًا حقيقيًا.
الثالث: هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري، يعنى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا بمن قبل محمد من الأنبياء، آَمِنُوا بِاللَّهِ ايمانًا صحيحًا، وَآَمَنُوا برَسُولِهِ خاتم الأنبياء محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) وهو القرآن العظيم
(وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) يعنى والكتب السماوية التي أنزلت قبل القرآن.
عندما ذكر الله -تَعَالَى – القرآن الكريم قال (نَزَّلَ) لأن القرآن نزل مفرقًا على مدار ثلاثة وعشرون عامًا، أما عندما تحدث عن الكتب السابقة قال تعالى (أَنْزَلَ) لأن الكتب السابقة كانت تنزل دفعة واحدة.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)
يعنى وَمَنْ يَكْفُرْ بما يجب الإيمان به من أمور غيبية، وهي الإيمان بالله تعالى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وهو يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب.
(فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) يعنى فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا عن الحق
سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
منقول من موقع وائل فوزي