إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه،ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد فاتَّقوا اللهَ عباد الله حَقَّ التقوى ، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، واعلموا أنّكم يوم القيامة ستحشرون ، وعلى أعمالكم ستحاسبون ، وكتابكم ستقرؤون ، ائتمارا بقول ربّكم :” اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
إخوة الإيمان:
قد جعل الله هذه الحياة الدنيا مزرعةً للآخرة يتزوّد فيها العباد الخير والعمل الصالح قال سبحانه “وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى”
جعل الله الدنيا دار عمل والآخرة دار الجزاء قال سبحانه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ومن فضل الله تعالى على عباده، أن منحهم إرادة واختيارا وحرّية وعقلا ليميّز بين الحقّ والباطل وبين الخير والشرّ، فإن اختار الخير وسبيل الرشاد جوزي عليه وكان من المفلحين الصالحين، وإن سلك طريق الغيّ والضلال عوقب عليه وكان من الضالين الهالكين. وتبعا لمسؤوليّة العمل ،وجسامته، وخطورة الكلمة وأثرها ، وكّل الله بعباده ملائكة (كراما كاتبين).فلكلّ منّا كتابه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ ويحصيها ، ويسجّلها دون تفريط ، ولا نسيان ولو كان مثقال ذرّة قال سبحانه (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)
أخي المسلم :اعلم أنّ كتابك بصدد التّدوين من قبل الملائكة الكرام الأبرار، سنة بعد أخرى ، يوما بيوم ،لحظة بلحظة ، كلّ ما يصدر عنك ، في يومك وليلك ، في حركاتك وسكناتك ،ذلك لأنّك مسؤول ومكلّف ، ذلك لأنّك خليفة ، ومحطّ أنظار المخلوقات كلّها التي أبت حمل هذه الأمانة وحملتها أنت ، لذلك لا بدّ أن تعلم أنّك لم تخلق عبثا وبالتّالي لا يمكن أن تترك سدى قال سبحانه “أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى”
أخي المؤمن ،عندما تعلم أنّك مراقب من قبل السّلطات الأمنيّة فإنّك تسعى إلى اجتناب كلّ ما لا يغضب السّلطة ، أو تتخفّى عن أنظارها وتفعل ما تريد أنت فعله ، ،،،أو لعلّ اسمك يدرج ضمن قائمة سوداء ،، لكن عندما تعلم أنّ الرّقيب عليك هو الله الذي لا تخفى عليه خافية ، الله الذي يعلم السرّ وأخفى ، الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور ، ،،حينها كيف ستتصرّف؟ وأين ستختفي ؟ أم أنّك ستتجرّأ على الله بالمعاصي ؟ رغم أنّك تعيش في أرضه وتستظل تحت سماءه وتأكل من فضله وتحيطك نعمه عليك من كل جانب كلّ ما في الأمر أنّ المسألة مسألة إيمان ويقين ، لذلك فالله قد جعل الهدى والتّقوى رهينة الإيمان بالغيب ،ومن الغيب أنّ الله يراك ، ومن الغيب أنّك ستبعث يوم القيامة ، وستحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة ، وستقرأ كتابك بما فيه من تفاصيل قال سبحانه” اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ” .ومن الإيمان بالغيب أنّك ستنبّأ بكلّ أعمالك التي صدرت عنك في هذه الدنيا التي قد تكون نسيتها ولكن الله قد أحصاها علينا قال سبحانه “يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”
مرّة أخرى أقول وأؤكّد : إن هناك كتابا فيه سجّل كلّ أقوالنا وأعمالنا سنقف عليه بين يدي الله جل وعلا قال سبحانه “وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً”
وقال سبحانه” وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً”
.ولكن هذا الكتاب إمّا أن يكون عن يمينك فتكون من أصحاب اليمين وما ينتظرهم من نعيم مقيم :”فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) ،،وأمّا أن يكون كتابك بشمالك،ويكون المآل الخسران المبين:” وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ* وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
ياليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه)
.أخي المسلم، ما أحوجنا اليوم إلى أن نذكّر أنفسنا بهذا المصير ، ليتحدّد الاختيار من الآن قبل أن يفوت الأوان ، فالآن عمل بلا جزاء ،وغدا جزاء بلا عمل ،،،،وهذا الأمر يذكّرنا بالامتحانات الدّراسيّة ، فترى التّلميذ يبذل قصارى جهده من أجل المذاكرة والحفظ ،ويسهر اللّيالي الطّوال ، وترى الآباء ينفقون الغالي والنّفيس من أجل نجاح أبنائهم في امتحان دنيويّ فكيف بامتحان لا رجعة فيه ، ولا مجال للتّأجيل أو الإسعاف أو الوساطة
أخي الكريم: إن مرور الأيام والشهور والأعوام تذكرنا بالرحيل من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة… فلنستعد لذلك بأن نقف مع أنفسنا وقفات محاسبة ، وليكن هذا اليوم العظيم علينا شهيد ، نقف وقفات في علاقتنا مع الله أوّلا ثمّ مع أنفسنا ثمّ مع النّاس .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إنه غفور رحيم
………
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين..
وبعد إخوة الإيمان:
ربنا سبحانه مكن الملائكة الكرام ، بحفظ أعمال الإنسان قال سبحانه: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)
هؤلاء الملائكة الكرام يحفظون كل شيء ، كل نفس بلا استثناء عليها حافظ ، والحافظ هنا هو الملك ، والله تعالى يكلف هذا الملك بحفظ كل شيء ، والله هو العالم وهو الغني وليس محتاج لهؤلاء الملائكة الكرام والله منزه عن ذلك ، ولكن مكن هؤلاء الملائكة الكرام من حفظ أعمال هذا الإنسان قال سبحانه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12).)
الملائكة الكرام عندما تسجل كلام الإنسان ، فإنها لا تسجل فقط ما ينطق به ، بل كذلك أيضاً تسجل الكلام النفسي الباطني بين الإنسان ونفسه و الذي لا ينطق به الإنسان ، هذا كله يسجل قال سبحانه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80))
وكذلك الملائكة الكرام يكتبون السر قال سبحانه
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
حيث أن البعض يتصور أن القول هو ما يجهر به فقط ، ليس الأمر كذلك ، بل أن القول هو الجهر والسر .
والمقصود إخوة الإيمان أن الإنسان الشقي يوم القيامة ، عندما يرى نسخة طبق الأصل من أعماله وهو على حافة جهنم ، فهو لا يرى ظواهرها فقط ، بك كذلك يرى بواطنها ، هذا هو المقصود .
عندما يسلم على أحد يرى بأي نية يسلم ، سترى النية ، بأي نية تسلم هذا كله سيظهر ، ومع الأسف الكثير من الناس لا يستحضرون ذلك ، لا يتذكرون هذا قال سبحانه (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
وتفصيل هذا النطق جاء في سورة فصلت
قال سبحانه (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) في هذا السياق لا يتكلم ربنا عن أولياءه المتقين، بل يتكلم عن الأشقياء ، (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) يعني وصلوا إلى نار جهنم قبل الدخول فيها ، حيث دائماً نجد أن عرض الأعمال يتم قبل الدخول ، والحكمة من ذلك لكي يقتنعوا ، يقتنعوا بأن الله لا يظلم ، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ) يعني ضدهم وليس في صالحهم .
أذن الشقي إخوة الإيمان تخرج كل ما دخل فيها من كلام لمدة 30 سنة أو 40 سنة أو 50 سنة أو 60 سنة أو 70 سنة ، من حياة التكليف ، فهو شيء كثير ، وكثير جداً ، شيء عظيم
(وَأَبْصَارُهُمْ) ، هذه العين تخرج كل مشهد وكل لقطة رأتها وأبصرتها وشاهدتها ، 50 أو 60 أو 70 سنة ، من حياة التكليف ، كل ما رآه الإنسان بعينيه يخرج في تلك اللحظة وهو على حافة نار جهنم ، العين هي التي تشهد على هذا الشقي بذلك وكذالك جلودهم
العين إخوة الإيمان ليست نعمة فحسب ، وإنما هي كذلك آلة تسجيل غيبية أخرى ، ما تقع عليه عينك عن عمد ، يعني ليس الخطأ ، بل عن عمد وتعمد وقصد ، كل هذا يسجل ، والعين يوم القيامة تخرج ما تم تسجيله من لقطات ومناظر ومشاهد وصور ، في مدة حياة التكليف ، مهما كانت ولو امتدت 70 سنة .
لذلك فإن الشيء الذي يظهر يوم القيامة لهؤلاء الأشقياء ، شيء كثير جداً وليس قليل ، تصور شقياً ينتظر قبل دخوله نار جهنم ، قبل دخوله جهنم ينتظر لمدة 30 سنة أو 40 سنة أو 50 سنة، يرى ما سمعته أذنه ، وما رأته عينه ، ويشهد عليه جلده .
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
ما هو الشيء الذي أرداهم وأهلكهم ، وجعلهم يصلون إلى جهنم؟
عدم تسبيح اسم الله العليم ، هم كانوا يتصورون ، أن الله يعلم قليلاً ، فهم يعترفون أن الله يعلم ، لكن يقولون أن الله يعلم قليلاً فقط من أعمالهم ، وبناء على هذا يتصورون أن الله سيظهر لهم يوم القيامة شيئاً قليلاً من أعمالهم السيئة ، خطوطاً عريضة ، مختصراً لحياتهم ، وبهذا هلكوا . ْ
لأن المسألة سنوات وسنوات ، وسنوات تتلوها سنوات ، هم لم يعيشوا في الدنيا سنة أو سنتين أو يوم أو يومين ، عاشوا هنا سنين ، وفي كل يوم يرتكبون السيئات ، ولا يتوبون ، ولا ينيبون ، كيف لا تتجمع هذه السيئات
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) سوء ظن بالله .
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
َ
والسؤال الذي يطرح نفسه : الأشقياء عندما يعيشون حياة التكليف المليئة بالمعاصي والسيئات ، سنين وسنين لا يتوقفون عن ارتكاب السيئات ، عندما يعيشون هنا ، هل سيتذكرون من سيئاتهم قليلاً أم كثيراً ؟؟؟
سيتذكرون القليل من سيئاتهم ، وينسون الكثير من سيئاتهم ، هذا في الدنيا ، لكن يوم القيامة وعلى حافة جهنم سيتذكرون كل شيء . قال سبحانه (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)
فهذا إنسان شقي على حافة نار جهنم تذكر أعماله السيئة كلها وبدون استثناء ، يقول :
سورة الفجر : يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
وهو فعلاً لم يقدم شيئاً لحياة الجنة .
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين…….