بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذا أمر من الله تعالى لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجهاد والقتال في سبيل الله.
(لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)
لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ بالقتال في سبيل الله، ولو وصل الأمر الى أن تقاتل وحدك فافعل، لأن الله تعالى وعدك بالنصر، وهو تعالى الذي ينصرك وليس الجنود،
وهذا الخطاب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكل واحد في أمته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد اقتدي به أبو بكر الصديق في حروب الردة فقال : “والله لو خالفتني يميني لجاهدتهم بشمالي”
سأل رجل “الْبَرَّاءَ بْنَ عَازِبٍ” عَنِ الرَّجُلِ يَلْقَى مِائَةً مِنَ الْعَدُوِّ فَيُقَاتِلُ، أَيَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المؤمنين.
(وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي حـــــثهم على القتال، وهذا مثل قوله -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- للْمُؤْمِنِينَ قبل غزوة بدر: “قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ” الى جانب عشرات الأحاديث التي ترغب في الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى.
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)
البأس هو الشدة والقتال
وتَنْكِيلًا أَيْ عُقُوبَةً، وهي مأخوذة من “النِكْل” وهو القيد.
والمعنى أن الله تعالى يأمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقتال في سبيله تعالى، ولو قاتل وحده، وأمره تعالى بأن يحث الْمُؤْمِنِينَ على القتال لعل الله تعالى بذلك يصرف عن الْمُؤْمِنِينَ بأس الكفار وقتالهم، أما اذا حدث قتال فاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا
وهذه الآية لها سبب نزول وهي أنه بعد معركة أحد واعد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا سفيان اللقاء للحرب في بدر بعد عام.
آخر لقطة من لقطات معركة أحد أن أبو سفيان قبل أن ينصرف نادي “إن موعدكم بدر”. فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لرجل من أصحابه قل: “نعم هو بيننا وبينك موعد”.
فلما اقترب الموعد من العام التالي، خشي “أبو سفيان” من لقاء المسلمين، فأرسل رجل اسمه “نعيم بن مسعود” الى المدينة ليخيف المسلمين من كثرة أعداد قريش، ووعده بمكافأة كبيرة اذا نجح في مهمته، وبالفعل وصل “نعيم بن مسعود” المدينة وأخذ يخذل المسلمين عن القتال، ويتحدث عن كثرة جموع قريش، وساعده في ذلك اليهود والمنافقين، حتى خاف كثير من الناس من الخروج، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) فامتثل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمر الله تعالى وقال “والذي نفسي بيده ؛ لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد” وأمر الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن ينادي على الناس بالخروج، فخرج معه ألف وخمسمائة مقاتل، وعشرة أفراس، فسار بهم الى بدر، وعسكر بجيشه هناك، وخرجت قريش في جيش من ثلاثة آلاف مقاتل، وخمسون فرسًا، ولكن في الطريق جبنت قريش وخافت من القتال، ولكن في الطريق أعلن “أبو سفيان” زعيم قريش الانسحاب والعودة الى مكة، وقال “يا معشر قريش، إن عامكم هذا عام جدب، و لا يصلحكم إلا عام خصيب، وإني راجع فارجعوا” وكان الخوف مسيطرًا على جيش المشركين كله، فلم يعارضه أحد وعادوا جميعًا الى مكة، وهذا هو قول الله تعالى (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) واستقبل أهل مكة جيش “أبو سفيان” بعد عودته بالسخرية ، وقالوا لهم “إنما خرجتم تشربون السويق” والسويق هو الطعام الذي كان مع الجيش، -مدقوق قمح وشعير- وسموا هذا الجيش بجيش السويق، وأقام الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بجيشه في بدر ثمانية أيام ثم عاد الى المدينة، وكانت الجزيرة كلها تنتظر نتيجة هذا اللقاء، فلما انتشر انسحاب جيش قريش أمام المسلمين، أعاد ذلك للمسلمين هيبتهم التي اهتزت كثيرًا في أحد، ولذلك فبعد هذه الغزوة –والتي لم يقع فيها قتال- جاءت كثير من القبائل حول المدينة ودانت للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
الشفاعة مأخوذة من الشفع في العدد، وهو الزوج، وهو ضد الوتر وهو الواحد.
وكانت العرب تقول “ناقة شفيع” إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها .
وهذه الآية نزلت في القتال في سبيل الله، لأن الآية السابقة جاء فيها الأمر بالجهاد ولو وترًا، أي وحدك.
يقول تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً) أي من يكون شفعًا لصاحبه في جهاد العدو، يعنى يقاتل في صفوف المؤمنين (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) يَكُنْ لَهُ ثوابًا مِنْ هذه الشفاعة (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً) أي وَمَنْ ينضم الى العدو فيقاتل معهم (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) يكون له اثم وذنب مِنْ هذه الشفاعة.
وهي تعنى كذلك شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أي التوسط لتحقيق منفعة.
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- “اشْفَعُوا تُؤجَرُوا”
(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا)
(مُقِيتًا) من القوت، يعنى الله تعالى بيده قُوت كل شيء
وما دام بيده قوت كل شيء فله تعالى السطوة على كل شيء، وله تعالى القدرة على شيء.
سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.