تدبر سورة النساء الآية 64-65

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

قلنا أن سبب نزول هذه الآيات أن خلاف وقع بين رَجُلٌ من المنافقين اسمه “بِشَرٌ” ورَجُلٌ يهودي، وبدلًا من أن يتحاكما الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحاكما الى أحد الكهان وقيل أنهما تحاكما الى “كعب بن الأشرف” فنزلت الآيات الكريمة تنكر انكارًا شديدًا على من يترك حكم الله تعالى إلى حكم غيره من البشر.
يقول تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
والمعنى أن أي رسول أرسله الله تعالى، يجب على قومه طاعته في أمره ونهيه.
اذن فطاعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليست خصوصية للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنها سنة الله تعالى في رسله، أن أي رسول يجب على قومه طاعته في أمره ونهيه.
وقوله تعالى (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعنى طاعة أي رسول ليست طاعة ذاتية، فالطاعة الذاتية لا تكون الا لله تعالى، ولكنها طاعة أذن بها الله وأمر بها الله تعالى.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بترك طاعة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(جَاءُوكَ) أي جَاءُوكَ يا محمد
(فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)
وهذا يعنى أن الله تعالى اشترط عليهم حتى يتوب عليهم أن يستغفروا الله ويستغفر لهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
والسؤال أليس يكفي استغفارهم لله تعالى حتى يغفر الله لهم ويتوب عليهم ؟
قال المفسرون: السبب أن هذا الذنب فيه اساءة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم تركوا حكمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحاكموا الى غيره، ولذلك كان يجب أن يعتذروا الى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع استغفارهم الى الله تعالى، وهذا فيه اعلاء لقدر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهذا مثل لو أساء أحد أبناءك الى أخيه فغضبت منه على هذه الاساءة، ثم جاءك يعتذر اليك، فأنت تقول له اذهب فاعتذر لأخيك أولاً، ولا أسامحك حتى يأتي أخيك نفسه، وهو الذي يطلب مني أن أسامحك، فأنت أعليت من قدر ابنك الذي أسيء اليه.
ولله المثل الأعلى وهذا مثال لتقريب المعنى فقط.

ثم يقول تعالى (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) والتواب صيغة مبالغة من التوبة، اشارة الى عظم ذنبهم.
ثم قال تعالى (رَحِيمًا) أي من رحمته بكم تعالى سيتوب عليكم من هذا الذنب الكبير.

هل يجوز أن يقول أحد يا رسول الله استغفر لي، سواء عند قبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو في أي مكان آخر.
قال البعض: هذا غير جائز، بل هو شرك بالله تعالى، وقالوا الآية الكريمة تتحدث عن استغفار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حياته وليس بعد موته، وقالوا اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث، الى آخر الحديث،

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

قيل أن هذه الآية المقصود بها قضية بشر المنافق واليهودي
وقيل أن سبب نزولها أن “الزبير بن العوام” كانت له قطعة أرض، وكان لأحد الأنصار قطعة أرض الى جوارها، وكانت أرض الزبير في مقابل مسيل الماء، فطلب الأنصاري من الزبير أن يترك الماء يمر ولا يحبسه، فرفض الزبير، فاحتكما الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-“اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ” يعنى خذ حاجة أرضك من الماء ثم أرسل الماء الى الأنصاري – وهذا الحكم لأن من كانت أرضه أقرب الى مسيل الماء فهو الأولى بالماء- فلم يعجب الحكم الْأَنْصَارِيُّ، لأنه يريد أن يكون نصيب أرض الزبير مثل نصيبه من الماء، وَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ‏ ؟‏ فتغير وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونزلت الآية
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) يعنى لَا يكون ايمانهم ايمانًا كاملًا، أو لا يكونون مؤمنين أصلًا
وفى إضافة اسم الله تعالى الى النبي في قوله تعالى (وَرَبِّكَ) فيه تكريم وتشريف للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما وقع بينهم من مشاجرة ومنازعة، وسميت المشاجرة بذلك لتداخل الكلام فيها كتداخل أغصان الأشجار.
(ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)
(حَرَجًا) أي ضيقًا، وذكرت نكرة يعنى أي حرج ولو كان قليلًا.
والمعنى: حتى لو استجابوا للحكم، ثم وجدوا في أنفسهم أي ضيق من الحكم، فهذا دليل على ضعف الايمان
(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
أي يذعنون ويخضعون ويقبلون قبولًا كاملًا لحكم النَبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، ولكن أسباب النزول تساعدنا في فهم الآية الكريمة
فالآية الكريمة تشير بوضوح الى أن المؤمن لا يكون ايمانه كاملًا، الا اذا تحاكم الى الشريعة الاسلامية التي جاء بها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)
ثم عليه أن يتقبل أحكام الشريعة برضا وطيب نفس، ويخضع لها خضوعًا كاملًا، يقول تعالى (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اذن هذه الآيات في هذا الدرس والدرس السابق كلها تحذر من التحاكم الى غير شرع الله تعالى.
وقلنا أن التحذير ليس موجهًا فقط الى حكام الدول الاسلامية التي لا تطبق شرع الله، ولكن هناك أيضًا الكثير من الأمثلة على عدم التحاكم الى شرع الله على مستوى الأفراد.
وضربنا مثالًا على المرأة التي تطلق من زوجها وهما في بلد غربي، فترفض ما تقضى به الشريعة الاسلامية لها من حقوق كمطلقة، وتلجأ الى القضاء الغربي لأن القانون في هذه الدولة يعطيها نصف ثروة زوجها.
وهناك أمثلة كثيرة لمن يرفضون تطبيق شرع الله في تقسيم الميراث فيتحايلون حتى لا ترث البنات في الأراضي أو العقارات، أو يتحايلون حتى لا يرث مع البنات أحد اذا لم يكن عنده أبناء ذكور، فنقول لهؤلاء قبل أن تطالب الدولة بتطبيق الشريعة الاسلامية، طبق أنت الشريعة الاسلامية على نفسك.

سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
منقول من موقع وائل فوزي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *