بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا)
تتناول الآية طائفة مضطربة العقيدة، فهؤلاء يدخلون في الإسلام، ثم يرتدون الى الكفر، ثم يدخلون في الاسلام، ثم يرتدون الى الكفر.
وليس المقصود في الآية بيان العدد، ولكن المراد هو التردد بين الايمان والكفر مرة بعد مرة، كما قال تعالى في حال المنافقين في سورة البقرة (مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء)
وقوله تعالى (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) ليس شرطًا أن هذا الوعيد لمن ازداد كفرًا، ولكن المعنى أن من يكون حاله أن تتكرر منه الردة مرة بعد مرة، أن يزداد كفرًا الى كفره.
ثم يقول تعالى (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ)
الثابت أن الكافر اذا آمن يُغفرُ له كفرُه، حتى لو تكرر منه هذا الكفر، فانه يغفر إذا آمن حقا.
ولذلك فقوله تعالى (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) للاستبعاد، يعنى من تتكرر منه الردة مرة بعد مرة، فانه يستبعد منه ان يدخل في الايمان ويخلص في ايمانه، ويغفر الله تعالى له.
(وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) ولن يوفقهم الله للهداية.
لأنهم خبروا نور الإيمان، ثم اختاروا رغم ذلك طريق الكفر والضلالة.
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
البشارة تستخدم للأخبار السارة، وأصلها انبساط بشرة الوجه عند سماع خبر سار.
فقوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) هذا من باب التهكم والتوبيخ للمنافقين، كما تقول للتلميذ الغير مجد: مبروك يا فالح لقد سقطت
لأن المنافقون يعتقدون أنهم بنفاقهم يسخرون ويتهكمون على المؤمنين، فيرد الله عليهم بأن يتهكم عليهم.
والمنافقين هم الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر
والنفاق من “النَافُوقاء” وهو جحر اليربوع، لأنه يجعل لجحره مخرج آخر –مخرج طواريء- يخدع بها عدوه، وكانت العرب تقول اذا طاردته وخرج من جحر آخر “نافقت اليربوع”
(بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا مؤلمًا موجعًا.
قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)
ووجه الاتصال بين هذه الآية والآية السابقة لبيان أن التردد بين الكفر والايمان، من صفات المنافقين، لأن الايمان اذا دخل في القلب فانه لا يخرج منه أبدًا، قال تعالى في صفة المؤمنين في سورة الحجرات (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) أي نقشه في قلوبكم
(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
يعنى من صفة المنافقين أنهم (يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) والمقصود بالكافرين هنا هم يهود المدينة، يقول ابن عباس هم يهود بنى قينقاع.
وقوله تعالى (أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى حلفاء وأنصار مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وبدلًا من الْمُؤْمِنِينَ.
يقول تعالى (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ)
أَصْلُ ”العِزَّةِ”، الشِّدَّةُ، كانت العرب تقول “أرض عَزَازٌ” يعنى أرض شديدة وصلبة لا تنبت، ونحن نقول: عَزَّ عَلِيَّ كَذَا ، يعْنَى: اشْتَدَّ عَلَيَّ، وقال تعالى (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) يعنى غلبنى في الكلام.
فقوله تعالى (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ)
هذا سؤال استنكاري، يعنى أَيُطْلِبُونَ عِنْدَ هؤلاء الكفار الْمَنَعَةَ وَالْقُوَّةَ والغلبة ؟
يريدون أن يتقووا بهم ؟
(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) فَإِنَّ الْعِزَّةَ والمنعة والقوة كلها بيد الله وحده، ثم يعطيها من يشاء من عباده
يقول تعالى (جَمِيعًا) وهذا للتأكيد، أي أن كل القوة بيد الله
قال تعالى (يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ)
هذه الآية تنطبق على حكام المسلمين على مر العصور في فترات ضعف الأمة الإسلامية ، حيث كانوا يستقوون بالأمم الكافرة، ولم يكن لهم هم الا الجلوس على كراسيهم، فكان ذلك يزيدهم ذلًا الى ذلهم، ولو اعتصموا بالله تعالى لأعزهم الله كما حدث لسلفنا الصالح، لأن (الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) كما قال تعالى.
روي في الصحيح عن عائشة أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج في أحد مشاهده قبل بدر فلحقه رجل من أقوياء وشجعان العرب يريد أن يقاتل معه، ففرح بذلك اصحاب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تؤمن بالله ورسوله ؟ قال: لا. فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فارجع فلن أستعين بمشرك”
يقول عمر بن الخطاب “نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله”
عندما أرسل الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السنة السادسة من الهجرة الرسائل الى الملوك والأمراء يدعوهم الى الأسلام، أرسل “عبد الله بن حذافة السهمي” إلى كسرى ملك الفرس، فدخل عليه في ايوانه وحوله عظماء فارس، وهو يرتدي ملابس بسيطة رقيقة، فأومأ كسري الى أحد رجاله حتى يأخذ منه الكتاب، فرفض “عبد الله بن حذافة” وقال: “إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدفعه لك يدًا بيد وأنا لا أخالف أمرًا لرسول الله” فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده.
وفي معركة “القادسية” أرسل “رستم” قائد الفرس الى “سعد بن أبي وقاص” يطلب منه أن يرسل اليه رسولًا يتحدث اليه، فأرسل اليه “ربعي بن عامر” فذهب اليه ومعه سلاحه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: ِنّما جئتكم حين دعوتموني، فإنما تركتموني هكذا وإِلا رجعت، فدخل على “رستم” وأخذ يسير مسافة طويلة على سجاجيد فارسية فاخرة، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق هذه السجاجيد حتى خرقها، ثم تحدث اليه، ثم خلا رستم الى قادته وقال لهم: ويحكم هل رأيتم قط أعز من هذا الرجل.
سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
منقول من موقع وائل فوزي