بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) ما معنى نقض الميثاق ؟
نحن نقول نقض البناء يعنى هدمه
ونقض الحكم يعنى الغي هذا الحكم.
ونقَضَ وضوئه، يعنى فسد وضوئه.
فنقض الميثاق هو عدم الوفاء به
فقوله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) يعنى بسبب عدم وفائهم بهذا الميثاق.
(لَعَنَّاهُمْ) أي أبعدناهم وطردناهم عن رحمتنا.
وأيضًا (لَعَنَّاهُمْ) أي عاقبناهم بالشتات، وكذلك (لَعَنَّاهُمْ) يعنى مسخناهم قردة وخنازير كما في قصة أصحاب السبت.
(وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)
والمعنى: جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ صلبة غليظة لا تتأثر بالمواعظ والترغيب والترهيب.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) أي أنه بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم، أنهم يُحَرِّفُونَ كلام الله في التوراة.
والتحريف نوعان: تحريف اللفظ وتحريف المعنى
فتحريف اللفظ كما في تحريفهم صفة الرسول ﷺ وتحريف المعنى يعنى تأويل الآيات تأويلًا باطلًا حتى توافق عقائدهم الفاسدة، مثل تأويل بعض آيات الانجيل لإثبات أن المسيح هو الله أو أنه ابن الله
وعبر – تعالى –بقوله: (يُحَرِّفُونَ) بصيغة الفعل المضارع، للإشارة الى أن هذا التحريف لم يكن نهج جيل واحد منهم، ولكنه استمر في خلال تاريخهم كله، وحتى عهد الرسول ﷺ عندما حرفوا صفة الرسول ﷺ
(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)
النسيان قد يأتي بمعنى السهو، وهذا مثل قوله تعالى في قصة الخضر (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)
وقد يأتي النسيان بمعنى الترك والاهمال عن عمد وقصد، كما في قوله تعالى (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا) أو (نسوا الله فنسيهم)
هنا المقصود بالنسيان في قوله تعالى (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) هو الترك والاهمال عن تعمد وقصد، وليس النسيان بمعنى السهو، بدليل أن الله تعالى قال بعد ذلك (حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
وقوله تعالى(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)
يعنى: تركوا مقدارًا كبيرًا مما أمرتهم به شريعتهم.
والتعبير بقوله تعالى (حَظًّا) يعنى تركوا أمرًا فيه خير كبير لهم.
مثل العلم بصفة الرسول ﷺ فكان يمكن أن يكون لهم السبق في الايمان بالرسول ﷺ وبالتبشير به – ﷺ
(وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ)
(خَائِنَةٍ) يعنى خيانة وغدر.
وقوله (خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) يعنى: خيانة منهم، أو خيانة طائفةمِنْهُمْ.
وقوله تعالى (وَلَا تَزَالُ) يعنى هذا الأمر مستمر فيهم، وأنه أمر من طبيعتهم.
وكان من خيانتهم: محاولة “بنى النضير” قتل الرسول ﷺ وتحالف “بنى قريظة” مع الأحزاب في غزوة الأحزاب، ووضعهم السم في طعام الرسول ﷺ في غزوة خيبر، وغير ذلك.
(إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) وهم الذين اسلموا من اليهود كعبد الله بن سلام ومخيرق والسيدة صفية غيره.
ولو لم يقل تعالى (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لكان السياق صحيح، لأن الغالبية لم تسلم، ولكن هذا الاستثناء فيه تكريم لهؤلاء الذين أسلموا من اليهود.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
العفو هو ترك مقابلة الاساءة بمثلها، والصفح هو اعتبار الاساءة كأن لم تكن.
فأمر الله تعالى نبيه ﷺ بعدم الانشغال بهم، بل بمقابلة اساءتهم بالعفو والصفح.
وهذا الأمر بالعفو والصفح عن اليهود كان لمرحلة حتى لا يفتح المسلمون عدة جبهات للحرب في وقت واحد، وحتى يعطي فرصة لتأليف قلوبهم، ثم جاء الأمر بعد ذلك بتأديبهم وقتالهم.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعنى كن من الْمُحْسِنِينَ لأن اللَّهَ تعالى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وهذه اشارة الى أن العفو والصفح يدخلك في مقام الاحسان
(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
(وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ) يعنى: وَمِنَ ٱلَّذِينَ يدعون أنهم نَصَارَىٰ.
لأن (نَصَارَىٰ) اسم مدح، وهو يعنى أنهم ينصرون الله وينصرون رسوله عيسي –عليه السلام- قال تعالى في سورة الصف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ)
فقوله تعالى (وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ) يعنى مِنَ ٱلَّذِينَ يدعون هذه الصفة لأنفسهم، ولكنهم ليسوا موصوفون بهذه الصفة عند الله تعالى
يقول تعالى (وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ)
يعنى وأَخَذْنَا من الذين ادعوا أنهم نَصَارَىٰ –أيضًا- الـميثاق علـى طاعة الله –عز وجل- ولكنهم فعلوا مثل اليهود (فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ) يعنى تركوا الكثير مما أمرتهم به شريعتهم، وتركوا الايمان بالرسول ﷺ بالرغم من أن صفته مذكورة في الانجيل، وأنهم أمروا في الانجيل باتباعه ﷺ
(فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ) يعنى عاقبهم الله تعالى بأن ألقي بينهم ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ.
وكلمة (فَأَغْرَيْنَا) من الغراء الذي تلصق به الأشياء
كأن هذه ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ أصبحت أمرًا ملاصقًا وملازمًا لهم إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
وقوله تعالى (بَيْنَهُمُ) يعنى بين اليهود والنصاري، أو بين فرق النصارى المختلفة والتي يكفر بعضها بعض، ويقاتل بعضها بعضًا.
وهناك سلسلة طويلة جدًا من الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، منها ما أطلق عليه حرب الثلاثين عامًا التي وقعت في القرن السادس عشر الميلادي وراح ضحيتها 8 مليون من المدنيين، وثلث سكان المانيا قتلوا في هذه المعركة.
(وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)
وهذا فيه تهديد لهم، يعنى هؤلاء الذين نقضوا الميثاق سيردون يوم القيامة الى الله، وسيقفون بين يدي الله، وسوف يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ تعالى بما صنعوا، وسيعاقبهم على ذنوبهم وجرائمهم.
سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
منقول من موقع وائل فوزي