“خطبة العناية بالصحة النفسية في الإسلام”
الخطبة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ ، الحمدُ للهِ الذي بنعمته تتم الصالحات وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتنزل البركات سبحانه نحمَدُهُ ونسْتعِينُهُ ونستَهْدِيهِ ، ونؤمِنُ بِهِ ونتوكّلُ عليهِ ، ونسْتَغفِرُهُ ونتُوبُ إليهِ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنَا ومِنْ سيّئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ ، وأشْهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ، وحْدَهُ لا شريكَ لهُ ، لهُ المُلْكُ ولهُ الحمدُ ، يُحيِى ويُمِيتُ وَهُوَ حيٌّ لا يَموتُ ، بِيدِهِ الخيرُ وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ قدير.
قصم الجبارين ببطشه بعد أمنه، وأسبل على العاصين ستره بمنه، وتكفل بأرزاق البرايا إنسه وجنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وأشْهدُ أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِهِ وسراجاً مُنيراً ، أرسلَهُ رحمةً للعالَمينَ ، وسراجاً للمُهتدِينَ ، وإماماً للمُتقينَ ، فبلَّغَ الرِّسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصَحَ الأُمَّةَ ، وكشَفَ الغُمَّةَ ، وجاهدَ في سَبيلِ ربِّهِ حتى أتاهُ اليقينُ ، صلى الله عليه وسلم وعلى آلِهِ وصحْبِهِ أجمعين، أمّا بعدُ:
إخوة الإيمان، أرأيتم دينا أكمل من دين الإسلام ورسالة أبلغ من رسالة الإسلام، ما أكمله وما ألطفه من دين حين راعى جميع الجوانب في حياة الإنسان وأهمها الجانب النفسي فالله تعالى خالقنا ويعلم أهمية الصحة النفسية وسلامة الصدور للبشر…
لذلك كان الإيمان بالقضاء والقدر ركنا من أركان الإيمان الذي يجب أن يتحقق في المؤمن حتى يصح إيمانه
يقول عز من قال:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
فالله تعالى يطمئن قلوبنا ويريدنا أن نؤمن ونصدق بأن كل شيء في الكون وكل ما يحدث مكتوب عنده في الكتاب وهو اللوح المحفوظ من قبل أن تُخلق هذه الأرض، وأن كل ما حدث في الماضي وما يحدث الآن وما سيحدث في المستقبل مكتوب عند الله من قبل أن تُخلق أنت وأنا وجميع البشر…
وهنا قد يتبادر سؤال إلى أذهاننا، ماذا نستفيد من هذا التصديق؟
أي عندما نؤمن بهذه الآية:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
ويأتي الجواب الشافي من عند علام الغيوب في الآية التي تتبعها من سورة الحديد:
(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
فلا تجزعوا ولا تحزنوا ولا تيأسوا إن حلت بكم المصائب وضاقت بكم الأرض بما رحبت وفي نفس الوقت لا تفرحوا ولا تتفاخروا ولا تغتروا إن عشتم في نعيم وحلت بكم الأفراح والبشائر فالله تعالى لا يحب كل مختال فخور.
هنا يريد الله لنا التوازن النفسي وراحة البال وطمأنينة القلب، ومن يؤمن بهذه الآيات فإنه سيكون راضيا دوما بقضاء الله وسيكون من الشاكرين الذين يحبهم الله ويحبونه..
وأما الشقي هو الذي سيعرض عن آيات الله فيرهق نفسه في التفكير بما حدث في الماضي ويخشى من المستقبل ويتعب نفسه كثيرا ليحقق طموحاته الدنيوية فتجده شارد الذهن ضيق الصدر لا يتحمل من حوله؛ لأنه يعتقد أن العالم سينتهي إن لم يحقق ما يريد، ويعتقد أنه سيملك الدنيا إن حقق مبتغاه، فلا وسطية عنده ولا اعتدال، فإما إفراط في الحزن وإما إفراط في الفرح وهؤلاء ليسوا من عباد الرحمن لأنهم أولا خالفوا هذه الصفة:
(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)
فالله بين لنا منهج حياتنا لكي نحقق الاستقرار النفسي وهم أعرضوا عنه فخسروا في الدنيا والآخرة.
كذلك خالفوا صفة أخرى في قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)
والإنفاق ليس شرطا أن يكون في المال، يمكننا أن نطبق هذه الآية في كل أمور حياتنا فديننا دين اعتدال ووسطية لا إسراف ولا تقتير…
فهناك من أسرف في الفرح وغرته الحياة الدنيا فتكبر وتبجح واحتقر الناس من دونه، وضرب لنا الله مثلا في ذلك إذ قال:
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)
إخوتي في الله،
اعلموا أن الابتعاد عن منهج الله يجعل تصرفات الإنسان عشوائية غير مبنية على قواعد راسخة فلو نظرنا في مجتمعاتنا كيف يعبر الناس عن فرحهم، لوجدنا الإسراف في ذلك، فإن فاز فريق في لعبة ما، تجدهم يعبرون عن فرحهم بتكسير الأشياء والصراخ وقطع الشوارع وغيره من الأفعال الجنونية غير الأخلاقية البعيدة عن شريعة الإسلام وهم يدعون الإسلام…!
كذلك في المناسبات والأعراس تجد الإسراف بكافة أنواعه من طعام وشراب وأثواب غالية وكماليات أخرى ليس لها داع..!
نسأل الله لنا ولكم السلامة والأمان والهداية وحسن الإيمان…
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
الخطبة الثانية:
إخوة الإيمان كما رأيتم آثار الخلل النفسي وعدم التوازن الروحي بسبب عدم اتباع منهج الله الحكيم..
ومن سلكوا هذا الطريق ليسوا عن قارون ببعيد، الذي طغى وعلا في الأرض بعد أن آتاه الله عظيم النعم وأغناه من فضله، فلم يشكر الله بل قال: (إنما أوتيته على علم عندي..!)
فخسف الله به وبداره الأرض وجعله عبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)
[سورة العنكبوت 43]
والله تعالى يقول في نفس سياق قصة قارون: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) الذين يسرفون ويتفاخرون بما عندهم من خير ونسوا أن الله هو الذي رزقهم.
وهذا لا يعني عدم الاحتفال والفرح لكن في حدود الشرع، يقول الله:
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)
فالأصل في التعبير عن الفرح أن يكون بشكر الله الذي بفضله أنعم علينا هذا الخير كله وهو الذي قال:
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
[سورة إبراهيم 7]
وفي الوجه المقابل هناك من أسرف في الحزن، فكلف نفسه أكثر من طاقتها فما عادت تطيق هذه الحياة، ومنهم من شق الجيوب ورفع صوته بالنواح ومنهم من وصل إلى الانتحار والعياذ بالله ظنا منه أنه سيرتاح!
ونسي أن الراحة هي بالرضا والقناعة والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى..
فيا أحبتي في الله اعلموا أن كل ما يحدث لكم إنما هو في علم الله وتحت إرادته فهو عالم الغيب (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
الله تعالى الذي يعلم ما في البر والبحر أليس بعالم بما في نفسك من ضيق وهم وكرب؟!
الله تعالى الذي يعلم كل ورقة سقطت من كل شجرة في هذه الأرض الواسعة، ويعلم الحبة في ظلمات الأرض ويعلم كل رطب وكل يابس، ألا يعلم بحالك وحاجتك؟
فأخلصوا لله أحبتي واعلموا أنكم تتنقلون من قدر الله إلى قدر الله ليبتليكم ويختبر صدق إيمانكم، أتكونون من الصابرين في البأساء والضراء؟
أتكونون الشاكرين للنعم والسراء؟
هذا وأسأل الله لي ولكم الإخلاص في القول والعمل وأن يتقبل منا صالح الأعمال والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.