الدرس العاشر

بسم الله الرحمن الرحيم وبالمعين نستعين وباسميه العليم والحكيم نسأله أن يؤتينا من لدنه علما وحكمة إنه هو العليم الحكيم . اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما. رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. رب ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي ((غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا)) فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
[سورة ق 22]

هذا الغافل الذي كانت على عينيه غشاوة ولم يدرك حقيقة الحياة الدنيا طوال حياته كان في غفلة عن اليوم الآخر

كانت عينيه وكأن عليها نظارة مزينة على عدساتها نقوش جميلة يرى من خلالها أن الدنيا فرصة للتمتع والمغامرة والترف والراحة.

وكأنه جاء إلى الدنيا في نزهة وتوشك النزهة أن تنتهي لذلك يريد الإستمتاع بها بأقصى ما يستطيع قبل أن تنتهي وكأنها النزهة الوحيدة والتي ليس بعدها نزهة أبدا.
فتجده يسارع في التمتع بدلا من المسارعة في جمع مهر الجنة.

(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي ((غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي)) وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)
[سورة الكهف 101]

كانت أعينهم في غطاء عن ماذا؟

” عن ذكري” !!

لا ترى الآيات
لا الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية
تنظر ولكن لا تبصر الحقيقة

هذا الغطاء أخفى عنهم الحقيقة التي لا ترى إلا مع الذكر فبقوا في غفلة عن اليوم الآخر.

تغافلوا عن ذلك اليوم.

والقرآن ذكر وركز ربنا على ذلك في صفحة واحدة ليؤكد أن القرآن ذكره وذلك في الصفحة الأولى من سورة ص.

افتتح السورة ب

(ص ۚ وَالْقُرْآنِ ((ذِي الذِّكْرِ))
[سورة ص 1]

وبعد آيات قليلة عاد مرة أخرى ليؤكد المعلومة.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ ((الذِّكْرُ )) مِنْ بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ((ذِكْرِي)) ۖ بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)
[سورة ص 8]

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)
[سورة اﻷنبياء 1]

ترى لماذا ارتبطت الغفلة عن الذكر بالغفلة عن اليوم الآخر في عدة آيات؟

ذلك لأن ذكر اليوم الآخر ولقاء الله والرجوع إليه مذكور تقريبا في كل صفحة من صفحات القرآن ذي الذكر

فإذا قرأت ولو صفحة واحدة يوميا “بتدبر” فستتذكر اليوم الآخر ولن تغفل عنه.

أما إن كنت تقرأ ولو خمسة أجزاء في اليوم قراءة غفلة فستظل في غفلة عن ذلك اليوم.

أقصد بالغفلة هنا هو عدم الاستعداد لليوم الآخر بالمسارعة الحقيقية في الخيرات وترك المعاصي والذنوب جميعا مهما حسبتها هينة. بسبب أن اليوم الآخر ليس بالبال وتم نسيانه.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي ((غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا)) فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
[سورة ق 22]

القرآن ينزع من عيني الغافل الغطاء ومن القلب الغفلة في الحياة الدنيا. قبل أن تنزع منه يوم لا ينفعه ذلك.

فكلما ذكرت أكثر
وكلما تأملت وتفكرت أكثر
كلما استيقظ قلبك من الغفلة أكثر وأكثر.

كلما زاد ذكرك في القرآن كلما تعلمت منه أن في الحياة الدنيا طريقان لا ثالث لهما

1- إما أن تكون ممن إذا
( ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩)
[سورة السجدة 15]

2- أو تكون ممن

(ْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا )

لأنك بقراءة الغفلة قد تظن أنك مهتد فلا حاجة لأن تخر لجميع الآيات .

لا حاجة لأن تخضع لها جميعها

لا حاجة لتطبيقها كلها

وأنه لا بأس في ذلك

وفي الواقع قراءة الغفلة تمثل واقع الغافلين !!

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ )

غفلة عن يوم الحساب؟

لماذا يا رب؟

لماذا هم في غفلة عن هذا؟

كيف وصلوا لهذه الغفلة؟

ويجيبنا الرب سبحانه وتعالى

(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ )

يأتيهم الذكر و يسمعونه ويقرأون آيات ربهم ولكن يسمعونه وهم منشغلون بأمور أخرى لا يوجد لديهم تركيز.
يسمعون ولكن لا ينصتون.

لا يركزون على الكلمات ولا على الآيات بل يركزون على عدد الصفحات وعدد الأجزاء.

يقرأ وقلبه لاه في مكان آخر تماما

ويحدث نفسه

سأذهب لصديقي فلان ونذهب للسوق ونشتري كذا وكذا.
سأطبخ كذا وأزين الكعكة بكذا .

وتقلب الصفحة وتكمل أفكارك .

وجارتي فلان لم ترسل لي طبقي الذي أرسلته لها.
وابني فلان لم يكتب واجباته سأعاقبه بعد أن أنتهي.

وتقلب الصفحة وتكمل حديثك لنفسك . وهكذا حتى تنتهي من وردك.

اقرأ معي الآيات مرة أخرى بتدبر

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ..َ)
[سورة اﻷنبياء 1 – 3]

أو يمسك بالسبحة الإلكترونية ويقول سأستغفر 1000 مرة.

يبدأ..

أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله
4 5 6 7 8 9

ثم ينظر للساعة

متى سأنتهي ؟
ثم يبدأ يسرع في الاستغفار لينتهي سريعا.

ثم فجأة يبدأ اللسان يتحرك بالاستغفار وقلبه بحديث النفس واصبعه يضغط سريعا على السبحة!!!

جوارحه تتشتت كل منها في واد آخر
اللسان في واد والقلب في واد وأصبعه في واد آخر.

(ِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى …َ)
[سورة اﻷنبياء 1 – 3]

إقترب الحساب ولا يشعر به الغافل

من يشعر به ويستعد له هو فقط الذاكر لله ذكرا ينبع من قلبه ليفيض على جوارحه.

قلبه يذكر وعيناه تتأملان .
قلبه يذكر ولسانه ينطق بالذكر.
قلبه يذكر فتخشع جميع جوارحه.
قلبه يسبح فيتناغم مع تسبيح ظله وخلايا جسده.
هذه هي قراءة التدبر والتفكر التي وجهنا إليها ربنا.

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)
[سورة ص 29]

أنزله لنتدبر آياته
أنزله لنتذكر
نتذكر الله
نتذكر عظمة الله
ونتذكر يوم اللقاء به.
نتذكر اليوم الآخر.

إذن للوصول للخشوع والسجود القلبي علينا بتذكر الموت يوميا.

الغافل يصدم في اليوم الآخر ويومها فقط يكشف عنه الغطاء ويبصر المصير فيصل لليقين.

(وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا ((أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)) فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا ((مُوقِنُونَ))
[سورة السجدة 12]

وللأسف لا رجوع
قلنا بأن التأمل يوصل لليقين.
ومن لا يصل بالتأمل في آيات الله لليقين في الدنيا
فلا ينفعه اليقين في الآخرة الذي يصل إليه برؤية النار والعياذ بالله.

لنا الخيار ما دمنا في الدنيا
إما التأمل في الدنيا لننجو

أو التأمل في الآخرة فلا ينفعنا

” إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”

هدانا وترك لنا الإختيار بعدها.

وهنا يظهر الفرق بين أولي الألباب أولي العقول وبين من هم كالأنعام بل هم أضل.

(وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)
[سورة السجدة 13]

لو شاء الله لأجبرنا على الهداية
لجبلنا على ذلك ولكنه يريد
أن نحبه بإرادتنا
أن نختاره بإرادتنا

ولن نفعل ذلك إلا إذا عرفنا حبه لنا من خلال تأمل نعمه علينا ورعايته لنا وتدبيره لأمرنا.

عندها سنختار حبه ونجعله فوق كل حب آخر.
فحبه هو الباقي الذي لا نهاية له.
ولا يخذل الله من يحبه.

أما إن إخترنا التجاهل لكل نعمه
وإخترنا أن نغطيها عن أعيننا وقلوبنا
أن نكفرها ونجحد بها وننكرها
عندها سننسى عطاءه وننسى حبه ورحمته.

بإختصار سننسى وجوده ونفعل كل ما تهواه أنفسنا بلا قيود.

سننسى أننا سنرجع إليه يوما
سننسى أننا سنلقاه وأنه سينبئنا بما عملنا .

يا لخجلي من ذلك اليوم وأنا بين يدي ربنا وهو يسألني

عبدي لم فعلت هذا ؟!
هل نسيتني؟!
هل نسيت أنك تلقاني؟!

ولا أجد عذرا ينجيني
فيقول

(فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
[سورة السجدة 14]

إن نسيت الله في الدنيا القصيرة

فسينساك في الآخرة الخالدة.

فكيف نتجنب هذا الموقف المرعب ؟
وكيف نتجنب الغفلة والنسيان؟

هذا ما سنتكلم عنه غدا إن شاء الله.

فتابعونا..

مشاهدة “افق من غفلتك أيها المسلم .. وصية مؤثرة || الشيخ محمد راتب النابلسي – بالمؤثرات” على YouTube – https://youtu.be/tHd7AQcXgTU

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *