بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16).
البرهان من القرآن على أن المعصية التي تبدو لنا صغيرة أو هينة ، البرهان أنها عند الله عظيمة ، أن الله يرتب على ارتكابها والوقوع فيها عقوبة ، وعقوبة ليست خفيفة ، بل عظيمة ، هذا هو البرهان ، مثال ذلك قصة أصحاب الجنة في سورة القلم .
سورة القلم : إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32).
أصحاب الجنة عندما عقدوا النية على أن يحرموا المساكين من ثمار الجنة ( المزرعة ) ، هذه نية سيئة وليست نية حسنة ، هذه النية السيئة في ما يبدو لنا ، عند الكثير من المسلمين ، تبدو لهم النية السيئة شيئاً هيناً ، لكن الله يرتب على ارتكاب هذه النية السيئة والوقوع فيها عقوبة عظيمة ، هؤلاء أصحاب الجنة الله عاقبهم وذلك بنزع جنتهم ، أخذ مزرعتهم كلها ، ولم يبقي لهم منها أي شيء مطلقاً .
سورة القلم : فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
وهذا قبل أن يتحركوا نحو الفعل .
سورة القلم : إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
أي أن الله أختبرهم بهذه الغابة ، أمتحنهم بهذه المزرعة ، وكلفهم بأن يمنحوا للمساكين حقهم حين يحين قطف الثمار ، أن يعطوا الفقراء نصيبهم من ثمار هذه المزرعة حينما يحين الحصاد .
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) : أي عقدوا النية بنسبة 100 % ، أي نيتهم السيئة بلغت حد العزم المأكد .
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) : هم عازمون على الفعل ، وليس لديهم أي تردد ، ونيتهم سيئة بنسبة 100% .
(لَيَصْرِمُنَّهَا) : تأمل لام التوكيد ، ونون التوكيد .
فهم عقدوا هذه النية السيئة في الليل ، على أن يتحركوا نحو الفعل صباحاً ، والعقوبة كانت ليلاً .
سنة من سنن القرآن الكريم ( قانون من قوانين القرآن الكريم ):
(( الله يعاقب على النية السيئة التي تصل إلى حد العزم بنسبة 100 % ، ولو لم يتحرك صاحبها نحو الفعل ))
ضع تحت كلمة ( ولو لم يتحرك صاحبها نحو الفعل) مليون خط .
هذه النية السيئة تبدو لدى الناس هينة وليست عظيمة ، ولكنها عند الله عظيمة ، والدليل العقوبة ، والعقوبة ليست خفيفة ، فقدوا غابتهم بأسرها ، كلها ذهبت ، لم يعثروا على شيء منها ، ذهبت أدراج الرياح ، ( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) .
يعني عادي إنسان ينام على نية سيئة ، قد ينام إنسان على نية سيئة ، ينوي مثلاً أن يظلم أخاه صباحاً ، أن يلتقي به فيشتمه مثلاً ، لكن قد يستيقظ وهو مصاب بمرض ، بمرض ما ، عقوبة من الله تعالى ، ويكلفه ربما هذا المرض علاجاً ، تكلفته تكون باهظة ، ( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ).
هذا الشخص في هذا المثال ، عندما آوى إلى فراش نومه ، نوى نية سيئة تتمثل في أن يظلم أخاه صباحاً ، لكنه استيقظ على مصيبة ، وهي المرض على سبيل المثال ، الله تعالى لا يمكنه من الظلم ، كفعل محقق ميداني ، ويسيره إلى المستشفى ، للعلاج كي يتأدب ، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) .
شخص آخر قد تصحبه نية سيئة ، تتمثل في نية السرقة ، عندما ينظم إلى شركة أو مؤسسة اقتصادية للعمل فيها ، فإنه ينوي أن يسرق أموال تلك الشركة ، لكن لا يسرق الآن ، لا يسرق بعد يوم ، هو ينوي أن يسرق بعد مدة طويلة ، بعد سنين ، لأن مفاتيح الخزانة المالية المتعلقة بتلك الشركة لا تسلم لأي كان ، تسلم لمن تقلد وظيفة راقية ، أو منصباً رفيعاً معيناً في تلك الشركة ، فهو يسعى من خلال نشاطه وجهده إلى أن يصل إلى ذلك المنصب ، أو يتقلد تلك المسؤولية ، وهو ينوي بمجرد أن يتقلد ذلك المنصب ، ويمسك بمفاتيح الخزانة المالية ، ينوي أن يسرق تلك الأموال كلها ، وتصحبه هذه النية ليس لأسابيع ، بل لشهور أو سنين .
كيف يتعامل الله تعالى معه ؟
الله تعالى يتعامل معه بضربات موجعة ، وعقوبات الواحدة تلو الأخرى ، وهو لم يتمكن من السرقة بعد ، لأن قلبه أسود ، لأنه سود قلبه بتلك النية السيئة ، وهذا يحدث كثيراً ، لكن كثيراً من الناس لا يربطون بين المصائب والضربات التي تصيبهم ونياتهم السيئة .
شخص آخر ، ينوي ارتكاب الفاحشة ، ينوي ارتكاب فاحشة من الفواحش ، لكن ليس الآن ، بل بعد مدة ، ربما ينوي ارتكابها خارج قريته ، أو خارج مدينته ، أو خارج دولته ، بعيداً عن أنظار الناس ، قد ينوي ارتكابها خارج الوطن ، ولكنه لا يستطيع أن يرتكبها الأن بسبب الظروف ، يعني حال بينه وبين ارتكاب الفاحشة قلة الإمكانيات ، الظروف لم تساعده ، ليست لديه أموال كافية ، وإلا في قرارة نفسه لو وجد الظروف مناسبة ومواتية وفي صالحه ، فإنه سيرتكبها.
أو ينوي قتل أخيه ، هناك من ينوي القتل ، أن يقتل نفساً بغير حق ، وتصحبه هذه النية لسنين ، وهو لم يقدم على القتل لأن الخطة لم تكتمل بعد ، خطة القتل غير جاهزة ، خلال هذه السنين ، وهذا الشخص تصحبه هذه النية السيئة ، الله تعالى يعاقبه عقوبات ، ويصيبه بضربات موجعة ، وتقع عليه مصائب كبيرة ، وهو لم يرتكب بعد تلك الفاحشة ، وهو لم يقتل بعد تلك النفس ، يعني لم يصل إلى مرحلة الفعل ، وهو يعاقب لمدة طويلة ما دامت النية السيئة في قلبه ، أنه يعاقب بسبب نية سيئة فقط ، نية سيئة وضعها في قلبه ، وهذا يحدث كثيراً جداً ، لكن الناس لا يربطون بين الضربات التي تصيبهم والنيات السيئة التي وضعوها داخل قلوبهم ، هذه النية السيئة يحسبها أكثر الناس هينة ، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) .
سورة الأعراف: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25).
كلنا نعلم أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة ، يعني عصى :
سورة طه : … وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121).
بعد هذه المعصية ، بعد أكله من الشجرة ، الله تعالى عاقبه ولم يكافئه ، والعقوبة هي أن الله أخرجه من الجنة ، وهذه الجنة التي كان فيها آدم عليه السلام هي نعمة عظيمة ، هذه النعمة العظيمة فقدها آدم عليه السلام بسبب أكله من الشجرة .
السؤال الذي يطرح نفسه : كم عدد المعاصي التي وقع فيها آدم عليه السلام ، بحيث كلفه هذا العدد فقدان تلك النعمة العظيمة ؟
الجواب : معصية واحدة فقط ، العبرة بمن عصي وليس بعدد المعاصي .
لا تعصي ربك ولو واحدة فقط ، لا تعصي ربك ولو معصية واحدة فقط ، فإذا تجرأت على ارتكاب هذه المعصية الواحدة فقط لأنك تراها هينة ، فكن على استعداد على أن تفقد نعمة ليست بسيطة ، بل استعد على أن تفقد نعمة عظيمة ، تجهز لكي تفقد نعمة كبيرة ، كنعمة السكن وكنعمة الصحة وكنعمة الأهل والولد ، وكنعمة الأموال والسيارة ، قد تفقد نعمة عظيمة ، وإذا فقدت تلك النعمة فلا تلومن إلا نفسك .
ولكن لماذا ؟ لأنك لست أفضل من آدم عليه السلام ، آدم عليه السلام أكل من الشجرة ، وقع في معصية واحدة فقط ، كلفته فقدان نعمة عظيمة وهي الجنة ، دفع الثمن باهظاً ، فلماذا نحن لا ندفعه ؟ ، نحن لسنا أفضل من آدم عليه السلام ، وقصة آدم عليه السلام أساساً موجهة إلينا ، لأن آدم عليه السلام وقت نزول القرآن ، وقت نزول القصة ، لم يكن حياً .
((العبرة ليس بعدد المعاصي ، بل العبرة بمن عصي ، وهو الله سبحانه وتعالى))
يتبع…