الدرس السادس و العشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

تابع :

النقطة الرابعة : أمثلة للتفريق بين نوع معصية آدم عليه السلام وبين نوع معصية إبليس .

المثال الرابع : نقاش بين مازن وعمر .

تصور شخصاً ، تصور مازن وهو في نقاش طويل وعريض مع عمر ، يعني كانت هناك انفعالات وتوترات ، صاحب هذا النقاش توتر وانفعال ، مما أدى إلى مازن أن يلمز عمر بكلمة جارحة ، يعني وسط ذلك الانفعال زلت قدم مازن ، فأطلق من لسانه كلمة جارحة صوب عمر ، هذا الأمر يعد معصية ، ولا يعد طاعة .

سورة الحجرات : … وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ … (11) .

ركز : لكن هناك حالتان ، يعني لا يخلو مازن من أن يقدم على إحدى الحالتين ، إما هذه أو تلك :

الحالة الأولى : قبل أن تنتهي الجلسة ، يعني قبل أن يتفارقا ، طلب مازن المعذرة من عمر ، يعني قدم له الاعتذار وطلب منه العفو و الصفح ، واعترف له بالخطأ ، نقول هنا أن مازن تاب من قريب ، وليس من بعيد ، بمعنى أنه أستجاب لنداء الفطرة ، مثلما أستجاب آدم عليه السلام لنداء ربه .

فهنا نقول عن مازن أنه (عصى) ، لكن يظل متقياً ، يظل مؤمناً ، بسبب تلك التوبة من قريب ، بسبب التوبة السريعة ، هي التي تحدد هذا .

سورة النساء : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) .

الحالة الثانية : أن مازن وجد نداء من داخله يأنبه ، لكنه غطاه ، لم يستجب له ، وأكثر من هذا توجه إليه بعض زملائه أو أصدقائه بالنصيحة ، نصحوه بأن يتوب من هذه المعصية ، نصحوه أن يتوب من معصية اللمز ، وأن يعتذر لعمر ، لكنه أصر وأبى ، وأخذته العزة بالإثم ، هنا لم يتب من قريب ، بل أنه لم يتب أصلاً ، هذا يجعله مرشحاً لسيئات أخرى تأتي تباعاً في الطريق ، وهنا لا يظل مؤمناً ، بل يصبح فاسقاً .

سورة الكهف : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ … (50).

قيل له : يا مازن لماذا لا تقدم الاعتذار لعمر ؟

قال لهم : أنا خير منه ، هو الذي يعتذر .

أخذته العزة بالإثم ، أنظروا إلى الفسق ، الإنسان عندما يقع في الفسوق ، بسبب الإصرار وعدم الاستجابة لنداء الفطرة ، ولنداء التنبيه الداخلي ، ولتأنيب الضمير .

سورة النساء : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18).

يعني هذا يخشى عليه إذا لم يتدارك الأمر في أقرب وقت ممكن ، قد يصل به الأمر أن لا يتوقف عن ارتكاب هذه السيئات حتى يأتيه الأجل .

المثال الخامس : الموظف الذي يسرق من الشركة .

إنسان يعمل في شركة ، في مؤسسة اقتصادية ، وسوس إليه الشيطان بأن يسرق مبلغاً مالياً من تلك الشركة ، فتوجه إلى الخزانة المالية ، وأخذ منها مبلغاً بغير حق ، هذا الأمر يعد معصية ، ولا يعد طاعة ، أخذ المبلغ وقام بإخفائه في مكان معين ، لكنه وجد نداء من داخله يأنبه ويعاتبه ويلومه ، وما هي إلا سويعات أو لحظات وتجده مسرعاً بذلك المبلغ وهو يرده إلى نفس المكان الذي أخذه منه ، فهذا تاب من قريب ، أسرع إلى التوبة ولم يتباطأ ، فهو يظل مؤمناً ،هو يظل متقياً ، ولا يصبح فاسقاً ، لا تستطيع أن تقول عنه أنه فسق ، لأنه لا يزال في الحالة التي وقع فيها آدم عليه السلام .

سورة الأعراف : قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) .

سورة الأعراف : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) .

ركز : لم يقل أن الذين فسقوا ، لم يقل أن الذين أجرموا ، قال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) ، لا يزالون على التقوى ، تلك التقوى تجعلهم يستجيبون لنداء الفطرة على الفور ، على جناح السرعة ، لا يتباطؤون ، لا يتأخرون .

الحالة الثانية : وهي المخالفة للحالة الأولى ، أن مازن هذا ، لما أخذ المبلغ ، وجد نداء من داخله يعاتبه ويأنبه ويلومه ، لكنه لم يستجب له ، بل غطاه ، أجتهد في تغطيته ودسه .

سورة الشمس : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10).

سورة النحل : وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59).

فأبقى المال عنده ، بل صار يفكر ويخطط ، ماذا سيشتري به ؟ ، أين يصرفه ؟ ، في ما يستعمله ؟ ، هنا هو لا يظل مؤمناً ، بل يصبح فاسقاً ، هنا خرج عن الأمر ، وصار يبرر تلك السرقة ، يبرر الغش ، يحاول أن يبرر لنفسه الخداع والمكر .

سورة الكهف : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50).

ركز : تقوى آدم عليه السلام ، هل يمكن أن تلتقي مع إصرار إبليس في وقت واحد ؟
لا يمكن أن تلتقي أبداً .

سورة آل عمران : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136).

السؤال : هل يمكن أن تلتقي تقوى آدم عليه السلام مع إصرار إبليس في وقت واحد ؟

الجواب : لا يمكن ، بل يستحيل ذلك .

المثال السادس : مباراة ملاكمة بين مازن وعمر .

هذا هو الفرق بين المتقي والمصر ، يعني نعطي مثال من عالم الملاكمة ، بغض النظر عن هذه الرياضة ، ما لونها وما شكلها.

ألتقى الملاكمين مازن وعمر والحكم بينهما مسعود ، وأشار الحكم مسعود بانطلاق المقابلة ، طبعاً مازن لم يتدرب جيداً ، صراحة لم يتدرب ، وعمر وجه إليه الضربة الأولى ، فأسقطه مباشرة ، مباشرة أسقطه ، الآن أنطلق الحكم مسعود نحو العد ، ومازن ملقى على الأرض .

فقال له : واحد .

فمازن وهو ملقى على الأرض يقول : أثنين .

الحكم مسعود يقول : ثلاثة .

مازن يقول : أربعة ، قال له أنا أعينك على العد ، أنا مرتاح ، أنا في راحة تامة .

هذه حالة إصرار ، وليست حالة تقوى ، هذه الحالة تقرب لنا معنى الإصرار ، وهذا هو إصرار إبليس ، إصرار كل من لا يستجيب لنداء الفطرة ، لنداء ربه بعد وقوعه في الزلة ، يعني ليست المشكلة في السقوط الأول ، المشكلة لماذا الإصرار؟ ، لماذا لا تحاول أن تقوم ؟ .

الحالة الثانية : هذه حالة أخرى تختلف تماماً عن الحالة الأولى .

الحكم مسعود ، يبدأ في العد ويقول : واحد .

ركز : هو لم ينتهي من كلمة واحد من حيث النطق ، إلا ومازن قام مسرعاً ، ووجه الضربة إلى عمر وأسقطه ، هذه حالة تقوى وليست حالة إصرار ، هذه توبة من قريب وليست توبة من بعيد ، هذه هي حالة آدم عليه السلام مع إبليس ، يعني إبليس نجح في إسقاط آدم عليه السلام.

سورة طه : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)

نتيجة الوسوسة :

سورة طه : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120).

لكن بعد أن سقط لم يبقى هكذا على حاله تلك ، بل أسرع إلى التوبة :

سورة الأعراف : قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23).

سورة الأعراف : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27).

هكذا هو الفرق بين المتقي وبين المصر .

تابع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *