الدرس السادس عشر

قواعد تصفية الملفات من خلال نبأ الخصم في سورة ص :

أما في سورة ص ، الله تعالى يبين لنا من خلال نبأ الخصم قواعد تصفية الملفات ، القواعد التي إن إلتزم بها الخصوم فإن الله تعالى يوفقهم إلى تصفية ما بينهم من نزاعات وفك ما بينهم من خصومات .

سورة ص : وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26).

(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) : الخصمان هنا بذلا جهداً من أجل التصفية ، في هذه الحياة الدنيا وهما لم يتركا الملف الذي بينهما لليوم الآخر ، إتجهوا إلى داوود عليه السلام ، ذهبا بأنفسهما إليه ، يعني لم ينتظرا دعوة منه ، وإنما هما اللذان بحثا عن داود عليه السلام في مكانه الذي هو فيه من أجل أن يحكم بينهما ، والقضية المهمة في السياق هي السرعة ، إتجها إليه بسرعة من غير موعد ، ودليل على ذلك لما رأى داوود عليه السلام هذان الخصمان فزع منهم .

( تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) : وهما كذلك تسورا المحراب ، يعني تسلقا المحراب ، والمحراب هو مكان العبادة الذي كان فيه داوود عليه السلام ، يعني يكثر فيه من النوافل بعد الفرائض ، يعني أوقفاه عن النافلة ، لأن تصفية الملف مقدم على النوافل ، تصفية الملفات مقدم على سائر النوافل وأعمال التطوع ، لأن تصفية الملفات فريضة من الفرائض ، الله تعالى لا يرضى أن تبقى الملفات عالقة ، لا بد من تصفيتها ، هذان الخصمان لم يتركا الملف الذي بينهما لليوم الآخر ليقوما بتصفيته في المحشر ، بل أنهما قاما بتصفيته في الدنيا وهم أحياء .
القاعدة الأولى : إجتهد في تصفية الملفات التي بينك وبين الخصوم في الدنيا قبل الآخرة ، لا تترك ملفاً للآخرة .
القاعدة الثانية : أنت الذي تبحث عن القاضي وأن تسأل عنه .
القاعدة الثالثة : تصفية الملفات من المستعجلات التي لا تقبل التسويف ولا التأخير ولا الإبطاء .

وحذاري أن تنتظر دعوة منه ، والخصمان هما اللذان بحثا عن القاضي وسعيا إليه ، مثل الطبيب الذي تذهب إليه عند المرض ، الطبيب لا يسأل عن المريض ، بل أن المريض هو الذي يسأل عن الطبيب .

( تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) : الخصمان لم ينتظرا حتى يدخلا من الباب كما هو معهود في تعامل الناس مع بعضهم ، بل تسوروا المحراب أي تسلقوا السور ، وقد يقول قائل : لماذا يفعلون ذلك ؟ هم لم يتسورا غرفة نومه ، أو غرفة طعامه ، بل تسورا المحراب أي مكان العبادة ، يعني يحق لهما أن يوقفا داوود عليه السلام عن النافلة وذلك من أجل أن ينقلاه إلى الفريضة ، وهي الحكم بين الناس بالحق .

سورة ص : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26).

وهناك الكثير من المسلمين قد تكون بينهم وبين الناس ملفات عالقة لسنين وسنين ، لا يسعون إلى تصفيتها وفي نفس الوقت يكثرون من النوافل ، ويكثرون من العمرة ، وقد يعتمرون من أموال الناس ، بأموال المظلومين .

سورة ص : إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
هذان خصمان إتجها مع بعضهما إلى داوود عليه السلام ، ووقفا مع بعضهما أمام داوود عليه السلام ، يعني أنهما كانا على استعداد أن يتقابلا وأن يمتثلا أمام القاضي ، ولم يذهب كل واحد منهما بمفرده ، وذلك لكي يسمع منهما في وقت واحد ، ولم يحتكر كل منهما الصواب لنفسه ، بل احتمل الصواب لغيره ، بمعنى لم يحكم لنفسه أنه على صواب 100% ، بل ترك الحكم للقاضي ، وهذا من قواعد التوفيق ، عندما تكون خصماً في الموضوع فلا تجعل نفسك حكماً ، أنت خصم فلماذا تحكم ؟
فمن قواعد التوفيق في تصفية الملفات أن تذهب أنت وخصمك إلى القاضي ، أن تذهبا معاً إلى القاضي في وقت واحد ، وأن تكونا على استعداد للذهاب معاً ، وأن تقفا معاً أمام القاضي ، حتى تعينا القاضي على الحكم ، ولكي يعلم القاضي أين الخلل ، فكل يدعي أن الحق له ، ويدعي لنفسه الصواب .
ومن قواعد التوفيق في تصفية الملفات أن تحتمل أن يكون الحق في صالح خصمك ، يعني لا تجعل من نفسك حكماً وقاضياً وأنت خصم في الموضوع ، والكثير من المسلمين قد تكون بينه وبين الطرف الآخر خصومة ، وهو متجه إلى القاضي ، يحكم لنفسه أنه على صواب 100% ، ويتجه إلى القاضي بنية أن لا يسمع من القاضي إلا هذا الحكم ، فإذا حكم القاضي له قبل ذلك ، وإذا لم يحكم له رفض الحكم ، فهذا لا يتبع الحق والعدل ، بل أنه يتبع الهوى .

سورة ص : إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

عندما تحدث أحدهما عن خصمه ، فإنه عبر عنه بصفة الأخوة وليس بصفة الخصومة و العداوة ، (هَذَا أَخِي) ، هو ينوي بهذه التصفية بأن يظل أخ له ، كان حريص أن يبقيه أخ له ، يريد أن يحافظ عليه أخ له ، لكن الكثير من المسلمين اليوم ، قد يستجيب لتصفية الملفات ، ولكن بنية أن يلغي الطرف الأخر بعد التصفية ، أن يعاديه وأن لا يتحدث معه ، وأن يقاطعه للأبد .

سورة ص : إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

هنا امتحان عظيم من خلال الفرق الهائل بين العددين ، فالفرق بين 1 وبين 99 فرق كبير جداً ولا تصح المقارنة .

نفرض (ركز : هذا مجرد افتراض فقط ليس إلا ):

أن مازن يخاطب داوود عليه السلام :

يقول مازن : أن هذا (يشير إلى عمر) أخي له 99 نعجة ، ولي نعجة واحدة .
ومازن ينقل كلام عمر ، فقال مازن يخاطب داوود : أن عمر قال لي : أكفلنيها .
يعني عمر الذي له 99 نعجة طلب من مازن أن يعطيه نعجته الواحدة .
لكن عمر غلب مازن في الكلام .
ويقول مازن لداود عليه السلام : لما غلبني عمر في الكلام أتينا إليك .
لو كانت القضية أمامك في ما يبدو وحسب الظاهر ، فإن الحق مع مازن الذي له نعجة واحدة ، ولكن عمر له 99 نعجة ولم تكفه بل طلب من مازن نعجته الواحدة ، عمر يطلب من مازن النعجة الوحيدة عنده ، لكي يكتمل لعمر 100 نعجة .
نجد من خلال حكمنا الظاهر في ما يبدو أن الحق لمازن الذي له نعجة واحدة فقط ، ولو استجبنا لطلب عمر ، فإن عمر سيحصل على 100 نعجة ، ومازن لن يحصل على شيء ، ولا حتى نعجة واحدة ، هذه النتيجة تجعلنا نشفق على مازن ، ونقول أن مازن مسكين فلن تبقى له ولا نعجة ولا يحصل على أي شيء ، فقد نقع في خطأ فنحكم له ، وهذا الخطأ الذي وقع فيه داوود عليه السلام ، وذلك عن شرود ذهن ، وليس عن قصد أو تعمد ، والأصل أن يستمع إلى عمر قبل أن يحكم .

سورة ص : قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)

وداوود عليه السلام مباشرة أدرك خطأه فأسرع إلى التوبة والإنابة ،( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) ، يعني أدرك داوود عليه السلام أنه أيضاً في امتحان واختبار ، يعني ليس فقط الخصمان في اختبار بل هو كذلك كقاضي ونبي هو أيضاً في امتحان واختبار ، ولذلك في أي قضية حكم يكون الخصوم في امتحان واختبار وابتلاء ، والقاضي أيضاً يكون في امتحان واختبار وابتلاء ، الكل في امتحان واختبار وابتلاء ، (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) .

العبرة التي نستخلصها أن لا نحكم لطرف على حساب طرف آخر إلا بعد الاستماع الجيد من الطرفين معاً ، مهما كانت شكوى أحد الطرفين ، يعني قد يأتيك شخص وقد فقئت عينه ويشكو من شخص آخر أنه فقأ عينه ، فلا تحكم له ، فقد يكون الطرف الآخر فقئت له عينين بسبب هذا الشخص .
(وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) : داوود عليه السلام أدرك وتيقن أنه ممتحن ومختبر ومبتلى بهذه القضية ، فالخصوم هم في امتحان واختبار وابتلاء ، والقاضي كذلك هل سيحكم بالحق ؟ ، هل سينطق بالحق ؟ .

سورة ص : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26).

وأن داوود عليه السلام لما وقع في هذا الخطأ من غير قصد ومن غير تعمد أسرع إلى الإنابة ،(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) ، قال لهم دعوني أستغفر ربي من هذا الخطأ ، أتركوني أستغفر ربي من هذا الخطأ وأركع وأنيب ، ثم أعود إليكما لأفتح الملف من جديد .
نهاية المحاضرة الرابعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *