بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الخامسة :المسارعة في تصفية الملفات
النقطة الأولي : التوبة النصوح تستدعي الإصلاح وعدم الظلم .
سورة التحريم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8).
الله يأمرنا أن نتوب توبة نصوحاً ، نصوحاً يعني صافية خالصة ، مثل اللبن الخالص النقي ، ليس فيه شيء من الوسخ ، وهذا يستدعي ويقتضي تصفية الملفات ، وتصفية الملفات هي أن تصلح ما أفسدته .
سورة الأنعام : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54).
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
أن الله غفور رحيم بعد التوبة ، بعد التوبة التي يصحبها إصلاح ، لأن التوبة التي لا يصحبها إصلاح هي توبة مزيفة ، هي توبة ليست حقيقية ، فمثلاً إنسان كان يسرق أموال الشركة التي يعمل فيها ، هذا إفساد ، لكن الآن تاب وباب التوبة مفتوح ، لكن يجب عليه أن يرجع أموال الشركة التي سرقها ، يردها كاملة غير منقوصة إلى تلك الشركة ، وإلا فتوبته مزيفة ، توبة غير مقبولة ، فالله غفور رحيم لكن ليس بعد توبة الشعارات ، ليس بعد توبة اللافتات ، ليس بعد توبة العنوان ، لذلك الكثير من المسلمين يبحثون عن هذه الرحمة في واقعهم فلا يجدونها ، ويتوهمون أنهم تابوا لكنهم لم يصلحوا .
مثال الإصلاح في سورة النور :
سورة النور : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5).
لأن الذي يتحدث في عرض الآخرين فإنه يتسبب في إفساد علاقات ونميمة ، لذلك عليه أن يصلح ، عليه أن يصلح ما أفسد ، عليه أن يعيد تلك العلاقات إلى ما كانت عليه ، وإلا توبته مزيفة ، فعملية الإصلاح مهمة جداً لأنها تحقيق للتوبة في الواقع .
التوبة النصوح تقتضي التصفية والإصلاح ، أن ترد المظالم ، أن ترد جميع المظالم بدون استثناء ، وأن تتنصل من جميع التبعات بدون استثناء ، أن تأدي الحقوق كاملة إلى أهلها بدون استثناء .
انظر مثلاً في سورة الحجرات :
سورة الحجرات : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11).
لما الله تعالى نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب ، ماذا قال في نهاية الآية ؟ (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
هناك ظلم عندما تسخر من إنسان ، عندما تلمزه بكلام جارح ، عندما تلمزه بلقب ، هذا فيه إنقاص من حقه ، هذا فيه إنقاص من كرامته ، وهذا فيه إنقاص من قدره ، ولا بد أن تعيد ذلك النقص ، إذ لا يكفي أن تقول أنا تبت إلى الله ، ولن أعود مرة أخرى ، هذا لا يكفي ، عليك أن تقصد هؤلاء ، عليك أن تبحث عنهم أين هم ، إسأل عنهم ، عليك أن تعتذر إليهم ، وأن ترد الحقوق كاملة ، ربما تسببت في إيذاء أحدهم وتسبب عن ذلك الإيذاء مرض معين لذلك الشخص ، هذا المرض ربما إن سألت المتمكنين في الشريعة قد يلزمونك بتكلفة العلاج ، وما يدريك ؟
تسب إنسان ، أو تتكلم في عرضه ، أو تشتمه ، قد تسبب له جرح عميق جداً في القلب ، قد ينهار نفسياً ، فأنت تتسبب في مرض ، يكلفه العلاج مبلغاً ضخماً ، إسأل وعليك أن تسأل عن كل هذا ،(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
سورة الحجرات : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11).
(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) والظلم لغة هو النقص ففي سورة الكهف لما تحدث الله عن الجنتين بماذا وصفهما :
سورة الكهف : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33).
(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) : يعني لم تنقص من خيراتها ، فالظلم هو النقص ، يعني لو كنت تتجول في هاتين الجنتين ، لا تجد نقصاً ، ترى عرجوناً أو قنواناً من التمر ، لا تجد نقصاً في مكان معين ، تجده مملوء بحبات التمر ، ولا يوجد فراغ هناك ، وعنقود من العنب لا تجد فيه حبة ناقصة ، هذا هو معني الظلم ، الظلم هو النقص ، يعني التوبة النصوح عندما تكون خالصة وتحقق فيها الإصلاح ، عليك أن تسدد جميع النقائص ، فليست القضية أن تعطي الآخرين شيء ما هكذا ، بصورة عشوائية ، عليك أن تقدر ذلك تقديراً جيداً ، (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) .
ركز مع نهاية سورة البقرة لما حرم الله الربا :
سورة البقرة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279).
(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)
يعني عليك أن تعيد ذلك الشيء الذي سميته فائدة ، وأخذته من الآخرين ، عليك أن تعيده إليهم ، أعده ولا تقل الطرف الآخر رضي ، فلما اتفقنا كان هناك رضى ، لا هذا الرضى لا يبرر ، عليك أن تعيد ذلك الشيء إلى أهله، وإلا فإنك ظالم ، أنت واقع في الظلم ، (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ).
يتبع…