بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الرابعة : قواعد تصفية الملفات
سورة التحريم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)
الله يأمرنا أن نتوب إليه توبة نصوحا ، نصوحاً يعني خالصة ، نصوحاً يعني صافية ، صافية مثل اللبن الخالص ، اللبن الخالص تجده صافياً ، ليس فيه شيء من الوسخ ولو مثقال ذرة ، التوبة النصوح تكون خالصة صافية ، وهذا يتطلب ما نسميه أو ما نطلق عليه تصفية الملفات ، نقوم بتصفية الملفات ، لكن لماذا ؟
لأن المعصية إذا وقع فيها الإنسان فإنها تترك أثراً ، وليس أثراً من صلاح ، بل تترك أثراً من فساد ، فالتوبة النصوح تصلح ما أفسدته المعاصي ، كما أنها تصلح ما أفسدته باقترافك المعاصي .
القاعدة الأولى : تذكر معاصيك وذنوبك ( تذكر ملفاتك) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)
وقواعد تصفية الملفات تنطلق ابتداء من تذكر هذه المعاصي والملفات ، يعني تعود بذاكرتك إلى الوراء ، 30 سنة ، 40 سنة ، 50 سنة ، 60 سنة ،70 سنة ، تعود إلى الوراء ، ترجع إلى الخلف ، تنظر إلى الماضي ، تتفقد التاريخ ، تتذكر ماضيك ، محاولاً ومجتهداً أن تتذكر كل شيء ارتكبته من ذنوب وسيئات ومعاصي وتعديات ومظالم ، وأن تظل على هذا التفكير والتذكر إلى آخر لحظة من حياتك ، وإياك وإياك أن تتوقف عن هذا التذكر ، حذاري حذاري أن تتوقف ، عش ما تبقى من عمرك وأنت تتذكر ذنوبك .
القاعدة الثانية : عندما تتذكر ملفاً ، اسأل العلماء في كيفية تصفيته .
الآن تذكرت ملفاً ما ، قبل أن تقوم بتصفيته يجب أن تقوم بالسؤال عنه ، تسأل لتكون هذه التصفية على علم ، لتكون هذه التصفية مبنية على علم ، وليس على جهل أو هوى أو مزاج شخصي ، وهذا يقتضي أن تسأل المتمكنين من علم الشريعة الذين لهم علم وخبرة في مجال تصفية الملفات .
سورة الجاثية : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ)
تسأل المتمكنين في علم الشريعة ، وتسأل عنهم جيداً ، مثلما تسأل عن الطبيب الذي يليق بك ، وأنت تسعى لعلاج مرض خطير جداً قد يفتك بحياتك ، تماماً هذا ما تفعله ، إياك ثم إياك أن تسأل نفسك ، حذاري أن تستفتي نفسك ، اسأل المتمكن في علم الشريعة الذي له خبرة وكفاءة وتجربة وأهلية في مجال تصفية الملفات ، هكذا مثلما تسعى وأنت مريض مرضاً خطيراً جداً قد يودي بحياتك إلى البحث عن الطبيب ، فأنت تراعي الكفاءة والموضوعية في هذا الموضوع .
المنافقون هم الذين يعرضون عن تصفية الملفات ، وليس المؤمنين
والله تعالى يبين لنا في كتابه أن من صفات المنافقين التهرب والإعراض عن تصفية الملفات ، وذلك مع ادعائهم الإيمان وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام .
سورة النور: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49).
(وَيَقُولُونَ) يعني يقولون بألسنتهم ، يقولون بأفواههم ،(وَيَقُولُونَ آمَنَّا) ، ألسنتهم تنطق بالإيمان .
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا)
يزعمون طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا في سياق وفي مقام أنهم يدعون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم ، وليفصل ما يحدث بينهم من نزاع وصراع حول قضايا كانت مالية أو ما شابه ذلك .
(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)
يعني بعد هذا النطق بالإيمان ، عندما يحين الموعد الحاسم يعرضون .
(وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)
نفى عنهم الإيمان .
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) لماذا؟
(لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)
إذن هناك قضية متنازع عليها ، هناك ملفات ، هناك خصومات ، حول أراضي ربما ، ربما حول أموال أو تركات ، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القاضي الأول بين المسلمين .
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)
هل لأنهم يشكون في عدل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ، لا ، وما البرهان على ذلك ؟ البرهان هو
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)
بمعني أن هذا المنافق ليس لديه شك أو ريب في عدل النبي صلى الله عليه وسلم ، هو على يقين ثابت وعلى إيمان جازم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالعدل ، ويحكم بالحق ، ولكن يتهرب منه عندما يشعر ويحس ويدرك أنه ليس على حق في القضية ، عندما يعلم من نفسه أنه على باطل ، وأن الحق ليس من نصيبه ، فإنه يتهرب ، أما إذا علم من نفسه أنه مظلوم وأن الحق معه ، هنا يذهب ويأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا معنى قوله تعالى
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)
يعني مستسلمين
( يَأْتُوا إِلَيْهِ)
الهاء هنا ضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا هو المعيار الذي نقيس به الهوى ، نستطيع أن نقيس الهوى من خلال الاعتبار بهذه الآية الكريمة ، يعني من هو المنافق أو الذي يسير في طريق النفاق ، هو الذي يهرب من العدل ، الذي يعرض عن العدل ، عندما يعلم أنه على حق 100% ، أن المتجر من نصيبه ، أن الأموال من نصيبه ، أن الأراضي من نصيبه ، عندما يعلم ذلك علم اليقين ، ويعلم أنه مظلوم بطبيعة الحال في هذه القضية ، هنا ينطلق مسرعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليأخذ حقه ، وذلك ليقينه الجازم بأن النبي عليه الصلاة والسلام يحكم بالعدل ، لا يحابي ولا يجوز ولا يظلم .
أما إذا كان يعلم من نفسه أنه على باطل ، وأنه ظالم ، وأنه هو المعتدي ،فيكون ليس على يقين ، يعني القضية فيها اشتباه أو لبس فهو لا يدري هل الحق معه أو مع الطرف الثاني ، في كلا الحالتين فإنه لا يغامر ، يقول لك : أنا لا أغامر ، لو ذهبت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، قد يعطي الحق للطرف الآخر ، وأخسر المتجر وأخسر الأموال ، لكن لن أذهب ، إذن هم يتبعون أهوائهم ، ولا يبحثون عن الحق ، والكثير من المسلمين يفعل ذلك .
المؤمنين هم الذين يعملون على تصفية الملفات ، وليس المنافقين
سورة النور : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
هذا هو المؤمن ، هذا تعريف المؤمن ، ننتبه هنا إلى أداة الحصر ، يعني الله حصر المؤمن في هذا الذي ينفذ و يطبق ويلتزم .
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)
المؤمن قد يقع في خلاف ، يعني لسوء فهم وتنسيق ربما ، أو سوء تفاهم ، قد يقع خلاف بينه وبين أخيه المؤمن أو طرف آخر ، حول تركة أو قطعة أرض أو حول مبلغ مالي أو أي شيء من هذا القبيل ، لكن المؤمن مباشرة لا يبقي القضية عنده ، لا يبقي الملف عنده ، لا يبقي الأراضي والأموال ومتاع الدنيا عنده ، يأخذه برمته ، يأخذ الملفات بأسرها ويتجه بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
ويقول : يا رسول الله هذه الدنيا هذه الأراضي هذه المليارات هذه الدكاكين هذه الشركات هذه المؤسسات الاقتصادية ، الحكم الذي تصدره أنا مستعد للامتثال له ، مستعد للعمل والتطبيق والتنفيذ ، وإذا حكمت أني لن آخذ شيئاً فإني سألتزم ،أنا أريد الآخرة ، أنا لا أريد هذه الدنيا ، أريد أن أعرف ما هو الحق في الموضوع ، وأنا على يقين أنك تحكم بالعدل ، وما تحكم به سأنفذه .
لكن هل أكثر المسلمين اليوم ملتزمين بهذا ؟ لا .
لذلك نجد أن أكثر المسلمين اليوم ، نتكلم هنا بصفة عامة ، نجدهم بعيدون كل البعد عن صفات وسلوك المؤمنين الذين عاشوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
سورة النور : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52).
يتبع…