الدرس الخامس

المحاضرة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف : وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49).

(وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )

سنرى من خلال الآيات أن المجرم هو الذي يستصغر المعصية ، وليس المؤمن ، المجرم استصغر المعصية هنا ، وبناء على استصغارها ظل يرتكبها ، ويصر عليها ، ولما وضع الكتاب ورأى أعماله ، تبين له ذلك وتفاجئ ، إنها المفاجئة ، تفاجئ بأمور كان يستصغرها ويظنها لا تأثر عليه ، وإذا بهذه الأشياء التي يستصغرها كانت سبباً في شقائه .

الذي يستصغر المعصية هو المجرم وليس المؤمن ، وسنرى أن سبب الشقاء هو استصغار المعاصي ، ومثال الاستصغار في كتاب الله نجده في سورة النور :

سورة النور : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

(وَتَحْسَبُونَهُ) : يعني أنتم تحسبونه ، أما عند الله فهو بخلاف ذلك ، والمعصية هنا في سياق الآية تتعلق باللسان ، ليس الأمر يتعلق بمن أختلق البهتان من الإساس ، بل يتعلق بمن ينقل الكلام ، يعيد ما يسمع .

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) : يعني يأتيه خبر ، ولا يتأكد من صحته ، ولا يتبين ، ولا يتحقق ، بل يعيد ، الكثير من الناس هكذا ، يتعاملون مع الأخبار هكذا ، أي خبر يسمعه عن أي شخص يعيده ، لا يرى ضرورة لتبين ولا لتأكد .

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) : المعصية هنا تتعلق بجارحة اللسان ، يعني الأمر هنا لا يتعلق بالضرب وبالقتل ، بل باللسان ، تكلم عن شخص في عرضه ، ونقل الكلام ، أعاد ما سمعه فقط ، لم يختلق البهتان ، يعني ليس بالضرورة أنه تعمد الكذب ، ولم يعمد أن ينسب إلى شخص ما لم يفعله ، هو فقط ينقل ويعيد فقط لا غير ، يسمع خبر عن شخص فيعيد إرساله مباشرة دون تبين ودون تحقق ، دون تثبت ، دون تمحيص .

سورة النور : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ): هذه المعصية المتعلقة باللسان هي عند البشر هينه ، ولكنها عند الله عظيمة .
السؤال : هل هذه المعصية المتعلقة باللسان ، هل هي عند الله هينة أم عظيمة ؟
الجواب : هي عند الله عظيمة .
لكن الناس يحسبونها هينة .
إذن المشكلة عند الإنسان ، المشكلة في نظرة الإنسان ، الخلل عند الإنسان ، نظرة الإنسان ليست صحيحة ، عنده خطأ في النظرة ، نظرته خاطئة ، خاطئة جداً .

وسنرى أن الإنسان لا يمكن له ، أن يقترب من أي معصية إلا إن استصغرها ، عندما يستصغرها يقترب منها ، وعندما يستعظمها ويراها كبيرة ، يجتنبها ويبتعد عنها ، فالمسألة تتعلق أساساً بالنظرة ، كيف تنظر إلى المعصية ؟ ماهي نظرتك إلى المعصية ؟ ، هل تستصغرها ؟ ، هل تستعظمها ؟ .
مثال :
الأسد الذي نعرفه ، الذي يتميز بخاصية الافتراس ، الأسد الذي هو ملك الغابة ، حجمه كبير وهو في الغابة ، حجمه ضخم ، يتميز بأنه عظيم ، لكن لو أن إنساناً أصيب بمرض في عينيه ، فرأي الأسد صغير ، هو بسبب المرض الذي في عينيه لا يرى الأسد بصورته الحقيقية ، لا يرى الأسد بحجمه الحقيقي ، بل يرى الأسد بحجم القطة ، فستصغره ، لذلك لم يفر ولم يهرب من الأسد ، بل أقترب من الأسد ، لذلك عندما تستصغر الشيء ، فإنك تقترب منه ، وإذا اقترب منه فالنتيجة معروفة .

كذلك الإنسان عندما يستصغر المعصية ، أي معصية ، فإنه يقترب منها ، وإذا أقترب منها فإنه يرتكبها ، ويقترفها ، ويسقط فيها ، ويقع فيها ، لكن لو رأى هذا الأسد على حقيقته ، على ما هو عليه من حجم حقيقي ، رآه عظيماً ، رآه كبيراً ، رآه ضخماً ، فإنه سيفر منه ، ولن يقترب منه ، كذلك الإنسان لن يقترب من معصية يراها كبيرة ، يراها عظيمة ، ما دام يراها كبيرة وعظيمة فلن يقترب منها أبداً ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقترب منها ، سيفر منها ، لن يقترب منها ، وهذا معنى ولا تقربوا .

سورة الأنعام : … وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ … (151).

سورة الإسراء : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32).

القرآن يقول لك لا تقترب ، يعني من الأساس لا تقترب ، كن بعيداً جداً .

سورة النور : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

عندما يظهر الأسد ، كبيراً وضخماً وبحجمه الحقيقي ، في عيون هذا الإنسان ،فإنه لن يقترب منه ، ما دام هذا الإنسان يرى هذا الأسد عظيماً ، فلن يقترب منه ، كذلك المعصية ما دمت تراها عظيمة فستفر منها ، لن تقترب منها .
لكن لو رأى الأسد صغيراً ، مثل قطة صغيرة ، وذلك لخلل في عينيه ، فإنه سيقترب منه ، ولن يفر منه ، والنتيجة أن الأسد سيفترسه ، سيأكله ، نفس الأمر فالإنسان إذا كان يرى المعصية صغيرة ، يستصغرها ، فإنه سيقترب منها ، وإذا أقترب من المعصية فإنه سيقع فيها ، ويكون أسيراً لها ، ستأسره هذه المعصية ، ستحكم عليه القبضة .
سورة النور : إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16).
والقرآن من خلال هذه الآية ، يقدم لنا الحل أو المنهج الذي من خلاله نصبح نرى المعصية على حقيقتها ، وحقيقتها أنها عظيمة ، ويتأتى هذا بالتسبيح ،( سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) .

(سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) : يعني ترى البهتان عظيماً بعد التسبيح لا قبل التسبيح ، عندما تسبح ربك ستعظمه ، وإذا عظمت الآمر فإنك ستعظم الأمر .

(سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) : بعد أن كان هيناً ، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) ، وذلك لفقدان التسبيح .

(سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) : صار البهتان عظيماً بعد التسبيح ، كل معصية ستكون كبيرة في نظرك بعد التسبيح ، لأنك بالتسبيح تعظم ربك ، وسنرى أن الأمر يتعلق بمن عصي ، وليس بالمعصية ، أو المخالفة ، أنظر إلى من عصيت ، ولا تنظر إلى المعصية ، العبرة بمن عصي ، وليس العبرة بالمعصية ، العبرة بمن عصي وهو الله ، الله هو العظيم .

سورة الواقعة : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

سورة الواقعة : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

سورة الحاقة : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

السؤال : هل يمكن لإنسان في لحظة ما أن يقع في معصية ، مهما تكن هذه المعصية ، وهو في تلك اللحظة يعظم ربه بقلبه ؟
الجواب : يستحيل ذلك ، حيث أنه لا يمكن لأي إنسان أن يقع في معصية إلا وقد فقد تعظيم الله في تلك اللحظة .
إذن : الحل هو المداومة على التسبيح ، الاستمرارية ، حتى يظل الله عظيماً في القلب ، حتى يبقى الله عظيماً في القلب .

المثال :
ذهب مازن إلى الجيش ، في أول يوم عمل له في الجيش ، في أول يوم من أيام خدمته ، أستقبله القائد الأول في المعسكر ، وهو برتبة جنرال ، لكن أستقبله بلباسه العادي ، لباس مدني وليس لباس عسكري ، ووجه الجنرال أمراً لمازن ، فمازن ما دام يرى أن الشخص الذي أمامه هو شخص عادي بلباس عادي فلن يستجيب للأمر ، فمازن رفض أمر الجنرال لأنه لا يعرف حقيقة الجنرال ، فهو يحسبه شخص عادي ، لم يطبق الأمر ، لم يلتزم .

فسأله الجنرال : لماذا تعصيني ؟.

فأجاب مازن : ومن أنت حتى أطيعك .
توجه الجنرال إلى داخل المعسكر ، ولبس لباسه العسكري الرسمي ، وهنا أمتثل مازن للأمر ، مازن أطاع الأمر ، لأنه عرف حقيقة الشخص الذي كان يأمره قبل قليل ، عرف أنه الجنرال ، عرف أنه القائد الأول في المعسكر ، فأطاعه ، لأن العبرة بمن عصي ، وليس بالمعصية ، عندما كان الجنرال عادياً ، بلباس عادي ، شخص عادي ، كان في نظر مازن شخصاً عادياً ، كان الأمر الصادر منه أمراً عادياً ، وكانت مخالفة الأمر مخالفة عادية ، لكن لما عظم هذا الجنرال بلباسه العسكري الرسمي الحقيقي ، عظم أمره في عين مازن ، وعندما عظم أمره عظمت المخالفة ، فلم يجرئ مازن على مخالفة الجنرال القائد الأول في المعسكر ، بعد أن تبينت له حقيقة هذا القائد .
ولله المثل الأعلى :
1) بمقدار ما تعظم ربك ، تعظم أوامره ، وتعظم المخالفة في عينيك ، وتعظم المعصية .

2) وعندما تفقد تعظيم الله في قلبك ، سترى المعصية هينة صغيرة ، وستجرؤ حينها على ارتكابها .
يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *